الصدفة تقود إلى بحوث مهمة غريزنغر.. تجسيد لحياة ضابط غستابو عادي

بانوراما 2021/04/21
...

  ديفد آرونوفيتش
ترجمة: بهاء سلمان
يروادني أحيانا شعور كما لو أننا المتابعين للنازية قد تعرّفنا على كل شيء يخصهم، من زوجاتهم واصدقائهم من علماء الأرواح وغيرهم، وعلاقتهم بالمخدرات، ووحدات التخزين الضخمة خلال الحرب العالمية الثانية؛ وفي السنين الأخيرة عملنا عى اقتفاء أثر حياة وهروب وموت مجرمي الحرب الحقيقيين. ويساورنا شعور تجاه الباحث عن ناشط نازي أنه يبحث ويتساءل إن كان مشروعهم قد قدم شيئا جديدا.
ولا بدّ من وجود نقاط خلال الخمس سنوات التي استغرقتها أبحاث وكتابة “كرسي ضابط الغستابو”، من التي جعلت “دانييل لي”، محاضر التاريخ الأقدم في جامعة لندن، يتأمل هذا التساؤل. ومع بحثه الدقيق في سجلات أرشيفية لعدة مدن، متطفلا على أصحاب المنازل الكارهين للسماح له بالدخول لرؤية خصائص ما بين الحربين، ومستقلا قطارا آخر إلى براغ أو شتوتغارت، متسائلا: “هل بحثي يستحق كل هذا العناء؟”
 
كرسي قديم
لكونه مؤرخا شابا يقيم في فلورنسا، أتم دانييل لي لتوه نشر رسالة الدكتوراه خاصته، ووجد نفسه في حفلة غداء مع فيرونيكا، الهولندية الشابة، التي أخبرته قصة كيفية أخذ والدتها مؤخرا لكرسي قديم إلى منجّد في امستردام لإعادة تنجيده، ليعاد العامل إليها لأنه عثر داخل مقعده المخيّط بإحكام على سلسلة من وثائق تحمل شعار الرايخ الثالث.
وبتفحّص الوثائق، وجد أنها تخص رجلا اسمه روبيرت غريزنغر، يحمل رتبة ضابط بقوة الغستابو المرعبة، ويبدو أنها حفظت هناك خفية سنة 1945 عندما كان الكرسي في براغ، وإشترته والدة فيرونيكا سنة 1968 من محل للخردوات. 
لم يكن دانييل يعلم ماهية حقيقة الدكتور روبيرت غريزنغر، فهذا الرجل لم يكن من أمثال مينغل أو آيخمان، ولم يكن قائدا لمعسكر اعتقال أو قاتلا، ولا يسعك مطلقا خلق الرعب من تحويل حياته إلى مسلسل درامي؛ فقد كان، رغم عنوانه الوظيفي، رجلا ذا شأن لا يذكر، محامي مقاطعات خدم الرايخ الثالث كموظف متوسط الدرجة.
وبانضمامه متأخرا للحزب النازي سنة 1937، كان غريزنغر قد انضم للغستابو في أيلول 1933، بعد تولي النازيين لزمام السلطة. ومن خلال هذا الوضع، كان عليه حضور أحداث مترابطة، وكانت اللحظات المثيرة للحماس تحل عندما يتلقى هو ورفاقه أوامر بالسيطرة على الجماهير حينما يقوم مسؤول نازي رفيع، أو حتى الزعيم هتلر نفسه، بزيارة مدينته الأم، شتوتغارت.
 
مواطن عادي
طيلة ثلاثينيات القرن الماضي، تنقل غريزنغر بين البلدات كرجل قانون للسلطات المحلية الصغيرة، لشرح قانون الزراعة لطلبة كلية الزراعة. وبشكل أقل ضررا، كان عليه تقديم تقارير لشؤون خاصة، مثل الامتثال الضعيف لقانون العرقية الذي يحرّم إقامة علاقات بين الآريين واليهود.
تزوّج غريزنغر ورزق بأطفال، وتم استدعاؤه سنة 1939 للخدمة العسكرية، وأصيب إصابة بسيطة على الجبهة الروسية بعد ذلك 
بسنتين. 
وبعودته إلى ألمانيا، تم إرساله لاحقا إلى براغ المحتلة، حيث إنشغل منذ شباط 1943 بواجبات إدارية. كل هذا وغيره الكثير تم كشفه من قبل المؤلف المتخصص بالتجسس. 
ومن خلال بعض القص التي لا يرغب أي ضابط إزعاج نفسه بها، يبدو أن غريزنغر لم يطلق الرصاص على الناس ولم يعذبهم، فلم يكن أكثر ولا أقل من أي عمل يومي لأي مواطن متقيّد بقوانين الرايخ الثالث. 
هذا لربما يفسر سبب تبني الكاتب، في الفصول الأولى من الكتاب، لعادة لست متيقنا من إثباتها، فلأجل ربط موضوعه مع الأحداث الهائلة التي حصلت آنذاك، يبدو أنه مرغم عدة مرات على تخمين ما كان ربما قد شاهده أو إعتقده غريزنغر لتلك الأحداث. في بعض الأماكن يبدو هذا الأمر معقولا، وفي أخرى يبدو أنه متوسع على نحو هائل جدا.
لكن في النهاية، نجح دانييل لي بتوصيل أفكاره، فهو يكسب تدريجيا الثقة بآرائه الخاصة في حالة غريزنغر. ويمثل الملايين من أمثاله بطرق عديده المفتاح للوصول الى لغز النازية: لماذا سمح الألمان بوجود هذا النظام؟ وبكلمات الشاعر ملتون، فقد خدمت النازية أيضا من كان يقف وينتظر. ومع فهم ما كان عليه غريزنغر وما فعله، يقترب الواحد منا بشكل وثيق إلى استيعاب المأساة الرهيبة لألمانيا القرن العشرين. 
 
استنتاجات مهمة
كان لي باحثا حريصا للغاية، فقد وجد الأسرة المتشظية وأجرى لقاءات معها، كما زار المنازل التي أقام بها غريزنغر، وسعى وراء جيرانه. لقد بذل جهده، ووجد كل وثيقة متوفرة تخص الدكتور غريزنغر، مكتشفا، بشكل ملفت للنظر، أن 27 مكتبة حول العالم تحوي نسخا من رسالته للدكتوراه.
 في النهاية، أمران خرجت بهما من هذه القصة: الأول، كما ظهر بالدليل من خلال التدخّل المذهل للعملية سنة 1935 والتي تعد زوجة غريزنغر المحتملة مناسبة لرجل ينتمي لقوة الغستابو، هي تماما تفسر كيفية اجتياح الجنون بسرعة هائلة لبلد متحضّر.
الأمر الثاني المثير للدهشة، فلمدة معيّنة خلال منتصف الثلاثينيات، أقامت عائلة غريزنغر بجوار أسرة روثشيلد اليهودية. 
وبعد حادثة ليلة البلور سنة 1938، فرّت أسرة روتشيلد الى باريس، لكن ذلك لم يكن كافيا، فقد تم اعتقال الزوجين وارسلا إلى معسكر اوسشفيتز. أعدم الزوج، فريتز، داخل غرف الغاز، لكن زوجته، هيلينا، بقيت حيّة؛ وكان وزنها 32 كيلوغراما حينما تحررت من المعتقل؛ وتوفيت سنة 1983 في ويمبلي.
أما أسرة غريزنغر، فقد عادت إلى ألمانيا مع إقتراب الجيش السوفيتي من براغ، وبقي الزوج بالمدينة، التي سقطت بعد ذلك شهر آيار 1945، وبدأت حملة انتقام من الألمان طالت 
الآلاف. ومات غريزنغر داخل أحد مستشفيات براغ، بعد إسبوع من وصول أسرته بسلام إلى ألمانيا، ودفن يوم الرابع من تشرين الأول في مقبرة جماعية. كان بعمر 38 سنة، مجرّد ألماني آخر مات في نهاية حرب بدأها رجال بلاده.