ما وراء الخطاب اللعب على المبادئ وتجزئة القيم

ثقافة 2021/04/25
...

  حسين العبدالله
 
يبدو لنا اليوم أنّ الكَثير من الكائنات لمْ تعد بريئةً في خطاباتها بل هي كُتل من التناقضات التي يفصحُ عنها الخطاب بأشكاله المختلفة كونها  كائنات لم تكَنْ لولا ما تتبنى من قِيم ومبادئ، سواء أن تكتسب هذه القيم عبر مراحل تطورها، أو أن تتلقاها من خلال المثاقفة، المثاقفة مع أفكار أخرى، والعيب هنا ليس أن يكون لكل واحد منّا كتلة قيمية معينة، كون هذه القيم وهذه المبادئ هي التي تشكلنا وتقدمنا وهي مصدر اختلافنا عن الآخرين، لكن المشكلة فيها تجزئتها واللعب على حبال المبادئ، كوسيلة إقناع أو اكتساب شرعية أو هيمنة على كائنات أخرى، ويظهر أنّ الخطاب مُحكم بجهاز قيمي، بمنظومة من القيم والمبادئ انزاحت إلى الخطاب من حقول معرفية أو عقائدية أو سلوكية، معقدها الأساس الذات، الذات التي تنطلق من أعماقها تلك الترسبات والجذور التي تراكمت فيها طوال مسيرتها. يقول المتخصص في اللسانيات نورمان فيركلف: "ننظر إلى الذات على أنها تاريخ متغير من العلاقات وسائل باستمرار وقد أجاد عالم النفس (جيروم برونر) هدف الفكرة عندما اعتبر الذات على أنها موزعة وليست متمركزة مثل كرة السنوكر"¹، إذن 
الذات موزعة وهذا التوزيع ناتج من تاريخها القيمي عبر مراحلها، والمهم حقاً كيفَ تتخلص هذه الذات من ميولاتها وأن تتحكم بجذورها، وأن تعمل وتمارس دورها من دون مشاكلات عنصرية، أو اختلافاتٍ على أساس التجزئة وتغييب دور الرصانة والعدالة والمساواة، هل يمكنُ لها أن تُقدمَ  مجموعة القيم والمبادئ التي تشكلها المؤسسة مثلاً وتنادي بِها على جذورها وقيمها العرقية والعنصرية على أسس طائفية دينية وسياسية وثقافية، كيف يمكن لهذه الذات أن تتنازل عن كل قيمها ومبادئها من أجل المبادئ والقيم العامة التي تنادي بها المؤسسة، هنا نحن نقوم بتبرئة النظام الداخلي في المؤسسات ونوجه الإدانة للذوات الفاعلة في تلك المؤسسات، إذن نحن نعمل في مؤسسات لا تنطلق من مبادئها وقيمها هي، بل من مبادئ وقيم شخوصها الفاعلين. فعلى مستوى المؤسسة تحديداً المؤسسة الأكاديمية، يمكن أن  نصل إلى نتائج صادمة على مستوى تجزئة القيم، فالمؤسسة هذه لا تعمل بمبادئها كما أشرنا وما يوقعها في مَزالق التجزئة مسألة مهمة تتعلق بخطاب المجاملة على حساب الرصانة، المجاملة في اختيار المنهج والأستاذ، أن توكل المهمة لمن لا يستحق، وأن تتيح له فرصة 
إنتاج وتوزيع التفاهة، خصوصاً وأنت تمنحه حريته في إسقاط جذوره وتمريرها عبر خطاب الدرس الأكاديمي، 
يقول فان دايك: "يؤدي الخطاب -أيضاً-  دوراً أساسيّاً لهذا البعد الإدراكي للعنصرية، فالتحيزات والأيديولوجيّات العرقية، ليست فطريّة ولا تتطور عضويّاً في التفاعل العرقي، فهي تكتسب وتتعلم -عادةً- عن طريق التواصل، أي عبر النص والحديث، وبمختلف ذلك عادة ما يعبر عن هذه التشكيلات العرقية العنصرية وتصاغ ويدافع عنها وتضفى الشرعية عليها في الخطاب، ومن ثم يتم استمرارها والمشاركة بها، ضمن المجموعة المهيمنة هذه هي الطريقة التي يتم بها تعلم العنصرية في المجتمع"².
هذا ما قاله فان دايك عن تمرير العنصرية في المجتمع، إذن كيف تمرر العنصرية في الخطاب الأكاديمي بوصفه خطابا أنموذجياً؟، والعنصرية هنا بمفهومها الشامل حتى على المستوى التفضيلي، تدخل العنصرية الخطاب الأكاديمي من الخلفيات العقائدية أولاً ثم الخلفيات السياسية، والتوجهات الثقافية، ومرحلة أخيرة من مراحل العنصرية هي عنصرية الجنس، والميول إلى ما هو شبقي. نحنُ الآن في عمق التجربة الأكاديمية نحن نغوص في الذات تماماً، الذات التي تختار وفقاً لقيمها العقائدية على حساب الرصانة العلمية، الذات التي تختار وفقا لقيمها السياسية وعقدها الشبقية على حساب الرصانة العلمية، هل يا ترى أن المؤسسة تعي هذا الخطر العميق في تمفصلاتها؟ هل تدرك أن المعرفة والعلم الآن يقبعان في حقل الخطابية، وإن كل ما هو تافه صارَ خطاباً أساسيّاً؟، هل تعلم أنها الآن تصدر 
إلى المجتمع مختصين بالهوية فقط؟، هل تعلم أن المتفوقين فيها ممن يستنسخون تجارب الآخرين؟، ومن الذين يلعبون لعبةَ قذرة مبنية على العلاقات، نحنُ الآن في سابقة خطيرة نتائجها بدأت تطفو من زمنٍ، فكيف نعالج خطابنا الأكاديمي ونخلصه من الذوقية والعنصرية؟، يبدو أنّ الأزمة ليست حديثة وجذورها بعيدة، لكنّ التطورات الجديدة بدأت تُعري تلك المؤسسات لأنها بدأت تشعر بتأخرها عن الحافلة، وأنها في تراجع مستمر، 
على المستوى العلمي، لكنها مؤسسات غير جريئة لا تستطيع اتخاذ القرارات. لأنها أيضاً تعمل بنظام تجزئة القيم، تعمل بنظام الحياء والمجاملة والخوف من اتخاذ القرار أيضاً، حتى على حساب المؤسسة نفسها، ذلك لأنّ المؤسسة نفسها تخلو من الرقابة، فقيمها غير فاعلة بقدر شخوصها الذين يتحكمون بها وفقاً لقيمهم الذاتية، فتدخل المؤسسة في متاهة فوضى القيم والمبادئ، وتسليع هذه الفوضى إلى أجيال جديدة، بل هي من تؤدي دور استمرار الخطاب العنصري (عنصرية الدين والسياسة والثقافة والجنس)، ذلك لأن منتجي الخطاب الأكاديمي يمتلكون قوّة اللغة والنفاذ إلى المجتمع والتأثير فيه، فهم الأقرب إلى الإقناع واكتساب الشرعية، وهم مرض خطير عندما يتخلون عن القيم العلمية الرصينة وقيم الإنسانية. 
____
¹. فركلاف نورمان، الخطاب والتغيير الاجتماعي، المركز القومي للترجمة، ص 209.
².  فان دايك توين، الخطاب والسلطة، المركز القومي للترجمة،  ص 222.