سرديَّة الحب والحياة والوجع العراقي

ثقافة 2019/02/11
...

نصير الشيخ
 
 
ــ هل يظل الواقع معينا دائما لاينضب، يُسرّب لنا حكاياته ويستدرج معنا قصصه التي تتخطى عتبات البيوت عابرة ألسَنَ الناس لتحط رحالها ((ثيمة)) او ((حدوثة)) في نص ادبي نقترحه هنا على الورق ليأخذ مداه الإبداعي.
ولأن الواقع العراقي متن متخم بسردياته العجائبية وخاصة في أزمنته الحديثة، مقدما لنا نتائج حتمية لأزمة الإنسان العراقي وصراعه مع واقعه اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، وصولا لصدامه مع الأنظمة الشمولية التي مرت، والتي جعلت منه ذاتا مستلبة تنفذ إرادات الآخر المتسلّط كونه صاحب سلطة عليا وبما يمتلك من ادوات تنفيذية تبطش بجسد الآخر قبل أحلامه.
و" الشهداء الخونة" رواية الكاتب حسن كريم عاتي الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت/لبنان، في طبعتها الأولى 2018، والتي استعرضت لنا على مدى 99 ورقة حيوات عراقية شهدت تحولات الأزمنة العراقية ووقوعها تحت هيمنة الاستبداد السياسي وضواغط النظام الشمولي الذي حكم لأكثر من ثلاثين عاما وتداعياتها المريرة.
تنفتح الرواية على سردية حلمية، كانت انا السارد هي المتحكمة بهذا الضخ الرومانسي ومحاكاتها لامرأة رُمز لها بـ (( م..))، تحضر بقوة عبرانشائية اللغة وانثيالها المستمر على صفحات فصلها الأول (سأرسم موتي على ثوبها)، ولأن الدخول الى عوالم الشخوص في الرواية لا يتأتى من فراغ، لا بدَّ من تأثيث للمتن الحكائي، وهنا يحضر المكان بين مجاليه (الخارج والداخل).. الخارج الحارة الشعبية وأزقتها وزواياها وبيوتها كتشكيل ايقوني، والداخل بيوت الحارة او المحلة ومكامن اسرارها وصرخاتها المكتومة.. لتكون دالة (الباب) مقتربا قرائيا لتأثيث هذا المكان.
((لكل بيت هويته التي ينفرد بها عن غيره، تعلنها الأبواب الخارجية للعين الخبيرة فقط، وان تشابهت او كانت من نوع واحد. فهي عتبة الولوج الى عوالم خاصة جدا، وتخفي اكثر ما تعلن، وتغلق صدرها على كل الحكايات، ولا تدخل اليها الا منها))ص 33.
المؤلف هنا يستنطق الأبواب بصفتها الدخول الى حكايات البيوت المغلفة بفرح مكتوم او حزن مستديم او آهة في صدر مخنوق، او رؤى عاشقة تتأمّل النوافذ كي يعبر طيف من تحب. فهو هنا (يؤنسن) الباب ويجعل منه مشتركا حياتيا يبوح بأسراره ولا ينطق بها، ذلك انها ((تستعير هوية الحب والكره من ساكنيها، رغم كونها غير قادرة على النطق او الانتقال من مكان الى اخر، لكنها تتقابل بحكاياتها المضمرة جميعا)). ص33.
يستقرأ المؤلف هنا بصفته راويا عليما، أشياء مادية ساكنة للعيان، لكنها ناطقة بشفراتها وألوانها ودلالاتها وربما لغتها التي نتحصّل على معرفتها عبر خطوط الكتابة على الباب وعفوية التعبير المناسب مثل (بسم الله، الدار للبيع، للإيجار.. الخ)) كلها تشكل علامات لقراءة ما، ليذهب بنا الى تصنيفاتها عبر ما تبوح به من لغة يجهلها الكثير، ويهملها الأكثر.. (( بعض منها مداخل للحرية كالمتنزهات، وبعض ابواب للقهر كالمعتقلات، بعض للطهارة المعلنة كأبواب دور العبادة، وبعض للنجاسة المعلنة كأبواب بيوت الدعارة، بعض للمعرفة كأبواب المدارس، وبعض للتحايل كأبواب الأسواق، بعض يدخل منها المنتصرون، وبعض يخرج منها الخاسرون)) ص35.
مابعد الأبواب كـ (دالة) ثمة حيوات تسكن البيوت، حيوات تقتسم المعيشة وترتدي صبرها واحلامها المؤجلة، لكن للأفكار والانتماءات حصتها من (البنى الفوقية) التي تحضر لدى شخوص المحلة ((بيت حميد رزوقي)) و ((بيت هاني)) بالإشارة الى الانتماء الأيديولوجي لكل منهما، وإظهار الصراع حتى ولو كان خفيا بينها، مع ميلان الكفة باتجاه السلطة الأقوى. لتحضر مشهدية السياسي ودوره التسلّطي على الواقع الاجتماعي، وانحرافه باتجاه تغيير بوصلة السوسيوثقافي لصالح الراهن المعبأ بالتحزّبات ومراقبة الآخر والحروب العبثية، بدأ من عام (1963) المنعطف الخطير في الحياة العراقية الذي انتج لنا سياسات رعناء وانهار دماء وتخوين مستمر لمبدأ الوطن، وانهيار منظومة العقل كونه اداة بناء وتحضّر ورسم خطط المستقبل.
تحضر البطلة تحت مسمّى ((.. م)) كي تنشر افادتها بعد ان انحسر الخوف، وبعد ان فاض الألم لديها بما يكفي لتدجين الروح على ادمانه. فمن فقد الأب في احداث 1963 وصولا لفقد حبيبها (حسن) ملدوغا بسم أفعى عند الحدود مهجّرا لعدم ثبوت عراقيته..!! مرورا بتجربتها مع (يوسف) زوجا لها يحاول اعادة صورة الحبيب التي غادرتها ومضى، حيث حسن اكتمال العواطف، ويوسف قافلة جديدة دخلت روحي..( فصل طشت الظعون ص(43.
الفصل الأخير المعنون ((م..)) هو خلاصة الذات/ البطلة بمواجهة مصيرها والذهاب ابعد لنكتشف انها تعيش عزلتها، ولكي لاتكون العزلة موتاً يتباطأ بالنسبة اليها، لذا عليها اكتشاف عوالم تعيد صلتها بحياة من احبتهم ولو بذاكرة خربة، وهذه المرة يحضر الهاتف النقال واسطة عولمية ليكمل حوارية مستمرة ومتقطعة في نفس الوقت، تتيح لها مراقبة مكالمات المتحدثين (عشاقاً وازواجا) او (تفكك جمل الرسائل/المسجات) كي تصل الى ماتريد من قناعة انها لم تفقد احدا، كلها تحضر عبر دفق الكلمات وحجم المشاعر التي يضخها رجل ما لامرأة على الطرف الآخر، ولو بصيغة العتب مرة ومرة بصيغة التلذذ المحب، وعبر صفحات تجاوزت العشرين، ((أفلت الجهاز من يدي فارتطم بحافة الحاسبة وانا اسمع صوتها (م...م..) تلعثمت وتاهت الأفكار، كيف يكون الخط الآخر للسيدة (م..) نفسها. هل كانت تستعمل الخطين معا للتراسل بتقمّص شخصية العاشق والمعشوق معا)) ص93.
 يحيلنا المؤلف الى (كسر التوقع).. لنجد ان هذا التراسل/ التواصلي، ليس بين رجل وامرأة، بين المرأة الوحيدة (م..) وهي تعيش اعوامها الآخيرة مقعدة، مستخدمة جهازي هاتف نقال لبث ماتبقى من ذكرياتها مع الرجل الذي يسكن هناك في البعيد.