نصير فليح
بيتر هالي {Peter Halley } فنان ومنظر فني في الوقت نفسه، له دور مهم في الفن والنظرية الفنية المعاصرة في زمننا الحالي. ومن أبرز المفكرين الذين تركوا أثرهم فيه هما جان بودريار Jean Baudrillard وميشيل فوكو. لكن هذا التأثير - بالطبع - لا يتجسّد في عالم الفن بصورة مباشرة، وانما عبر تدرّجات متعددة تتحول من خلالها المفاهيم والافكار.
والحقيقة انه يصعب تجنيس او توصيف عمل بيتر هالي بمصطلحات جاهزة مثل "الحداثة"، "ما بعد الحداثة"، "الفن الاختزالي"، "الفن المفاهيمي" وما شابه. فرغم تضمن اعماله الفنية وفكره شيئا كبيرا من كل هذا، فإنه يحافظ على مسافة كافية عن تجنيسات من هذا النوع، كما سيتضح اكثر.
يستخدم هالي الاشكال الهندسية المعروفة في تيارات الحداثة التجريدية، ولكنه يسعى لمقاربتها بطريقة جديدة للتعبير عن مفاهيم وافكار باشكال هندسية مختزلة واولية. ومن هذا الباب، يمكن ان نلاحظ في فنه سمات التيار المفاهيمي في الفن (الذي يركز على المفاهيم والافكار في الاعمال الفنية) او الاتجاه الاختزالي. ويمكن ادراجه ضمن اتجاهات "الاختزالية الجديدة" neo-minimalism و"المفاهيمية الجديدة" neo-conceptualism (والبادئة neo تستخدم احيانا بدل new في سياقات معينة).
واعماله الفنية، سواء في اللوحات الفنية او التنصيب الفني او أعمال الديكور تميل الى الالوان الساطعة، واستخدام مواد مشرقة، بما في ذلك استخدام النيون والانارة. وهو لا يعتبر عمله "تجريديا" على الاطلاق، بل يرى استخدامه للاشكال الهندسية في لوحاته وتصاميمه تحولاً من الاسلوب الاختزالي الى فن ذي مغزى اجتماعي. ومن ابرز هذه الاشكال المربعات والمستطيلات، التي قد ترمز في سياق عمله الفني الى مفاهيم معينة، مثل السجن والاعتقال في فكر فوكو، وهنا يمكن ملاحظة شكل من تجسدات افكار فوكو في فن بيتر هالي.
بودريار وفوكو
يقول هالي إن الكثير مما كان يعتمل في نفسه واعماله الفنية وتفكراته، وجده لاحقا مطروحا بقوة ودقة عالية في الفكر ما بعد البنيوي لا سيما لدى جان بودريار وميشيل فوكو، هذه الدقة والعمق اللذان لا يستطيع ان يجاريهما نظريا. لكن هذا لا يعني ببساطة انه وجد تطابقا تاما، فنظرية بودريار عن التمثيل "السميولاكرا Simulacra) كانت محسوسة اصلا في اعمال هالي الفنية وفي استخداماته للمواد. ومع انه يرى ان فكر فوكو اهم معرفيا من فكر بودريار، فان تأثره بالاخير في اعماله الفنية اكبر، من خلال التصور باننا نعيش في عصر تهيمن فيه التمثيلات الرمزية للاشياء والعالم. لكن افكار فوكو لا سيما عن السجن، تركت تأثيرا واضحا ايضا في عمل هالي، وفي رؤيته للعالم والمجتمع المحيط به. كما انه يرى ان النظرية تعزز وتعمق عمل الفنان، ولكنها ليست شيئا يتم فرضه على الاعمال الفنية، بدعوى التماشي مع المعاصرة والحداثة او ما بعد الحداثة ومجاراة الموضات.
مجاراة الموضات
الكثير من الفنانين والمعنيين بالفن في وسطنا الفني العراقي والعربي لديهم اطلاع او فكرة عن بعض المفاهيم والتيارات الفنية الحديثة والمعاصرة. واسئلة "الحداثة" و"ما بعد الحداثة" (وما بعد هذه ايضا) يتم تداولها بكثرة في الاحاديث والافكار او المعارض الفنية، رغم وجود حالة من سوء فهم شائع بهذا الخصوص، لا في الوسط الفني فقط بل الثقافي عموما: وهي التعامل مع هذه المسميات بشكل "وصفات جاهزة"، او التصور ان "ما بعد الحداثة"، مثلا، هي مرحلة "اكثر تطورا" من "الحداثة" على اساس انها جاءت بعدها وتخطتها، وكأن المسألة مواكبة لآخر الموضات والصرعات، دون دراية كافية بأن الأمر لا يمكن اختزاله على هذا النحو المُخلّ، وهو ما سيتضح اكثر ايضا من خلال مقاربات بيتر هالي للموضوع.
بيتر هالي مناهض كبير لافكار وتنظيرات كلمنت غرينبرغ Clement Greenburg المنظر الشهير وأحد المدافعين الرئيسين عن التجريد في الفن الحديث، الذي ترك تأثيرات كبيرة على التيارات الفنية وحتى على الذوق العام والاقبال على شراء الاعمال الفنية. لأن هالي يرى ويفهم الحداثة نفسها بشكل مختلف كثيرا، وان ما تم طرحه وتقديمه من منظرين من امثال غرينبرغ على انه "الحداثة"، هو في حقيقته أنموذج واحد محدد، هذا أولاً، فضلا عن ان هذا الأنموذج مرتبط ولا يزال بأرضية الهيمنة الفكرية والثقافية والفنية للعالم الغربي، لا سيما بعد بروز الولايات المتحدة كقوة كبرى امبراطورية على اعقاب الامبراطورية البريطانية، بعد الحرب العالمية الثانية.
"فالحداثة" الفنية في نظر هالي هي صيغة من التخطي المستمر المتعدد الاتجاهات للانماط القديمة، وينبغي بالتالي ان تكون ذات اتجاه نقدي، يتضمن الشك والابتعاد عن القطعية، اتجاه منفتح على افاق شتى، بعيدا عن الاطروحات التي تربط الحداثة بصيغة او صيغ معينة جاهزة، كما جرى. وهذه الإمكانات المغايرة تم اقصاؤها ولا يزال، كما يرى هالي، بحكم الهيمنة الثقافية للعالم الغربي، فكانت النتيجة نوعا محددا من فهم للحداثة ما يزال فاعلا الى يومنا.اما بالنسبة "لما بعد الحداثة"، ففي الوقت الذي يحتفي هالي بالكثير من سماتها، مثل نزوعها الى التنوع والاختلاف والمغايرة والابتعاد عن القطعية او الارضيات الثابتة الراسخة النهائية، فانه يرى ان هذه السمات ينبغي ان لا تنفصل عن السياق الاجتماعي والفكري مثلما يفعل الكثير من "ما بعد الحداثيين". كما انه يعتبر السمات الايجابية في ما بعد الحداثة هي سمات تنتمي للحداثة في جوهرها وأصل معناها.
الاستلهام والاستلهام المعاكس
يمكن لتجربة مثل تجربة بيتر هالي ان تثير اكثر من سؤال. ومن بينها ان الحدس الفني او الموهبة الفنية، سواء في الفن او الادب، قد تحمل في ثناياها بذورا عميقة، تتماهى مع عالم النظرية المعاصرة لها او السابقة او اللاحقة عليها ايضا (وهو ما يتم اكتشافه احيانا بعد موت الفنان او الاديب).
كما قد تحيلنا الى ما يمكن ان نسميه "الاستلهام المعاكس" ونعني ان ينطلق مفكرون ومنظرون من اعمال فنية وادبية عبقرية او مميزة في افكارهم ونظرياتهم. ويمكن ان نشير هنا على سبيل المثال الى تأثيرات بعض الشعراء في فلسفة هايدغر، او قراءة فلاسفة معاصرين من امثال ألان باديو لتجارب شعرية معينة، او حتى لفوكو الذي يستلهمه هالي، وكيف استلهم فوكو نفسه من ادب بورخس (يمكن ملاحظة مستهل كتابه "الكلمات والاشياء" على سبيل المثال) وامثلة أخرى كثيرة من هذا النوع مما جرى ولا يزال يجري من استلهام متبادل في العلاقة بين الفكر والفن.