مخططات للخسارة

ثقافة 2021/04/25
...

 ياسين طه حافظ
حسناً، لم يكن بدء تاريخ الإنسان أمية، لأنه لم تكن كتابة. وحين وجدت الكتابة، فلعدد معين وما اتسعت للناس خارج دائرة الحاكم والمعبد. لكن القبائل في الغابات كانوا جميعاً يعرفون الاشارات والعلامات المتفق،  عليها نوع من الكشفية تدربوا من صغر عليها.
نحن في هذا العصر، وفي بلداننا، عرف الناس الكتابة لكن لايعرف الجميع ما وراء الكتابة وما في النص من رموز. 
ومعرفة الدلالات بقيت علماً آخر. كان البدائيون يعرفون الاشارات ويعرفون ما ترمز إليه الاشارة: الدخان أو عُقَد الحبال أو رسم السهم الى اسفل... صرنا في مرحلة حضارية اكثر تقدماً لكن التقدم الحضاري لم يشمل الجميع. 
وهي  حال هذا البلد وبلدان أخرى. قد يكون ذلك أمراً طبيعياً في الحقول الخاصة، لكن لم يكن في ما يخص ضرورة العيش والحياة على الارض. لماذا الجميع لم "يتفقوا" في ضرورة النظافة وطبيعة الاوبئة والقوانين المرعية والسلوك السليم وعلى بينة من اساليب او احابيل الخديعة والاستغلال واداء الواجب واحترام القانون؟، واذا افتقدنا هذه، وهي  ضرورات عيش وتكافل، فكيف يرقى الناس للتمتع بالمسرح والموسيقى، تجد ملايين تقرأ روايات، كتبنا في السلامة العامة والصحة وحتى عن الطيور واسرار الفضاء والبحار؟ حصل تقدم، لماذا لم يحصل التقدم في نواحي الحياة الأخرى وتتكامل ثقافة الناس الاجتماعية؟ السؤال الحاسم، لماذا قلّةٌ تقرأ وقلة تفهم؟، حتى الان كمّ من البشر يقرؤون ولا يفهمون كتابهم المقدس؟، من وراء استمرار الامية؟.
أظن ما بذل من جهود واموال في النشر و"التثقيف" ليس قليلاً، لكن كان يعوزه التوجيه السليم لا الانشغال بالترفيه بدلاً من التأسيس والبناء الثقافي ولملايين ابناء البلاد.
 مهرجانات عديدة وصرف اموال، للنخبة، للمعنيين وللدولة! كم هي المهرجانات العامة للشعب، لتثقيفه، لرفع مستوى ذائقته؟، وما الذي يعرفه الانسان عن الاوبئة، عن مبادئ الاقتصاد، عن الفنون، عن اوليات الحقوق ومبادئ العلاقات الدولية وضرورات الامن الشخصي والوطني؟، وما هي ثقافته الصحية؟، لماذا هي قليلة جداً أن لم تكن معدومة أحياناً؟، لكل من المفردات التي ذكرناها وزارة ومديريات متخصصة لهذه الحقول، فلماذا هو هذا الحال بعد كل هذه السنوات والاموال؟، ولماذا من تخرجوا من الجامعات، ومن الفروع الانسانية لا يستوعبون نظريات ونصوص الثقافة الاجتماعية، ومن الفروع العلمية لا يفيدون منها في حياتهم العملية، والجميع لا يتذوقون ولا اقول يفهمون الفنون، ليس غير الساذج العادي منها؟.
والسبب أننا أناس استعراضيون، مهرجانات، معارض، مناسبات... للنخبة،  لـ "عالية" المستوى، وحقيقتها المشتركة لإرضاء الدولة!، هي في كل حال ليست لتثقيف الشعب، الشعب مُهْمَلٌ!، وإهمال الشعب لابقائه في جهله ولتسهيل خداعه وإمرار كل الادعاءات عليه. ومع افقاره للمال وللفهم، يكون قد أُسقِط من الحساب.
هذه حال لا تقتصر علينا، في بلدنا، ولكنها في الكثير من بلدان افريقيا وآسيا ولا نعدمها في اميركا اللاتينية، هو مخطط للخسارة. 
اموال ولا تقدم ومؤسسات وجامعات ولا ثقافة.
ما أردت حديثاً في السياسة أو رأياً في الحكم، ولكني أردت غاية اقتصادية على التعين. 
أقول كم هي الخسارة من عمل وزارة الصحة؟، وكم ستوفر الوزارات ودوائر الاعلام لو كان الشعب مثقفاً صحياً؟، وكم ستوفر وزارات ودوائر لو كان الشعب يعرف مايجب؟، بل كم سيبيع كاتب الرواية لو كان الشعب مثقفاً قارئاً؟، وكم ستوفر من اموال من استيرادات غير نافعة بل بعضها مؤذٍ يترك آثاراً سيئة؟، بعضها لا ضرورة له، بعضها اكثر مما يجب، غير ناسين ما تخلفه بقاياها عسيرة التحلل من ضرر في البيئة،  ثم كم ترمي ربة البيت ورب البيت من طعام كل يوم، وكم نأكل مما هو ضار أو مغشوش أو تالف 
أصلاً؟. 
 في حديث مع اساتذة تدريسيين، كان الاتفاق على حقيقة أن كثيراً من المواد التي تدرَّس وتبذل في سبيلها أموال محاضرين وكتب ووقت، لا يفيد منها المتخرج في حياته العملية وينساها بعد سنتين أو ثلاث. 
فكم ستكون النتائج افضل او اعلى أهمية لو وفرت جانباً دروس لا علاقة لها باهتمام الفرد أو تخصصه، ومن اجل موضوعات يحتاج لها وتدريب على حرف او مهارات لأعمال يومية يحتاج لها في عيشه وعمله وضرورات بيته؟، بل ألسنا في مجال الكتابة الادبية والاهتمام الفني  نرى متخصصاً في الادب لا يفهم نصاً ولا ينتبه لامتياز تقني أو لبناء رواية؟، ماذا كنا ندرس إذا؟، ثم اذا كان عملي لا يستوجب ان افهم نصاً ادبياً، لماذا أضعنا كل ذاك الجهد والمال والزمن في تعلمه؟، لِمَ لايُعاد رسم خطوط التعليم باتجاه النفع المستقبلي أو باتجاه التخصص او باتجاه الاحتياجات اليومية؟.
وهل كل ما قلته غائب عن الفطنة العامة وعن القائمين على الثقافة والتعليم؟.
أبداً. كل هذا معروف ولا اختلاف مهما عليه. 
لكنه المخطط الجهنمي المرسوم لهذه الشعوب، لا لكي لا 
تتقدم حسب بل لتظل لا تفهم ولتظل دورة الاخطاء واصلاحها، ولتظل الشعوب سهلة الخداع والقياد قانعة بخبزها وبأجرها الذي أن لم يسدّ أجر الشفاء، تموت!.