ميادة سفر
يجنح البشر عموماً لصناعة الأيقونات وتقديسها وإيجاد وتعظيم الأبطال وأحياناً اختراعهم.. وفي هذا السياق قام المخيال والموروث الشعبي والحكواتي وكتّاب القصص والملاحم الشعبيَّة، بإضافات كثيرة لشخصية البطل وأسطرته “جعلته أسطورة”، محولة إياه إلى ما أطلق عليه حديثاً بلغة العصر اليوم “السوبرمان”، الرجل الذي لا يقهر، الرمز الذي لا يأتيه الفشل لا من أمامه ولا من خلفه، فهو القائد المعظم المقدام، المدافع عن المظلومين، المناضل، الفارس الذي لا يُشق له غبار!.. ولا شك في أنَّ تاريخنا محشوٌ بأولئك الموسومين أبطالاً ممن تم تقديسهم، لدرجة لم يعد ممكناً ولا مسموحاً الاقتراب منهم، أو المسّ بشخصهم ولا بسيرتهم وأعمالهم.
هذا مع العلم إنَّ باستطاعة أيّ مهتم أو فضولي، أنْ يفتش وينبش في سيرتهم الذاتية ليأتينا بأخبارٍ عن بعضهم، ربما، يندى لها جبين الإنسانيَّة، وممارسات أبعد ما تكون عن البطولة، وتأكيدات كيف أنّ صدفاً وأقداراً صنعت منهم أبطالاً دون إرادة أو رغبة منهم، اللهم إلا قلة قليلة ممن آمنوا بمبادئ ودافعوا عنها.
رغم كل علامات الاستفهام والتعجب التي يمكن أنْ نضعها أمام أسماءٍ كثيرة ممن أتى بهم تاريخنا القديم وأحياناً المعاصر، إلا أنّ الاعتراف لا بُدّ منه.. فهم شخوصٌ وُجِدت يوماً ما، أنجزت مرات وفشلت مرات، وتركت بصمات في مسار الأحداث التي أوجدوا فيها، فهم بشر من لحم ودم، حقيقيون أقله بتواجدهم المادي، وإنْ كتبت سيرهم ونقلت وروج لها من وجهات نظر مختلفة، وأجمعت على تتويجهم أبطالاً لا جدال فيه.
صورة البطل القدوة التي حكاها لنا التاريخ، ونقلتها لنا الكتب والسير الشعبيَّة، مُحيت اليوم أو تكاد في عالم صناعة الصورة، من تلفزيون وسينما وتجهيزات وتقنيات وتطبيقات رقميَّة، راهناً بات البطل يُخترع.. يُصنع.. من خيالات الكتاب!.. حصل ويحصل هذا، حين قدمت لنا السينما لا سيما “الهوليودية” شكلاً جديداً وهمياً لبطل لم يولد ولا وجد يوماً في الحياة، هم فقط من نسج خيال الكاتب وتصميم المخرج وفريقه!.. هنا، وأنت تشاهد فيلماً سينمائياً، ستتعثّر بحزمة من التقنيات الحديثة المبهرة، والتكنولوجيا المتطورة، والأحداث المخترعة التي لا أساس لها في الواقع لا الراهن ولا القديم!. أكثر من هذا، فإنَّ البطل التاريخي الحقيقي، وحينما قدّم في الأفلام السينمائية والدراما التلفزيونية، أضيفت إليه بعض التعديلات والمكملات والمحسنات أحياناً، ليطل علينا بنموذج مثالي يصل درجة القداسة من وجهة نظر البعض!.. وعلى ضفة أخرى تمت شيطنة آخرين أحياناً من قبل بعض آخر!.. كل ذلك تبعاً لتوجهات الجهة المنتجة، ورغبتها في تبني وطرح أفكار وآراء وتلميع أو تشويه صورة ما، بما يكفل صناعة مزاج ورأي عام حول قضية معينة أو حدث أو شخصية أثارت جدلاً وخلافاً تاريخياً.
خلاصة القول إنّ صورة وشكل البطل الذي رسم في أذهاننا بدأت بالتراجع والانكفاء أمام البطل المخترع، والمعاد تدويره مراراً وتكراراً، كي تقدم التقنيات الحديثة بطلاً بتحديثات جديدة تواكب العصر الراهن، وتنطق بكلماته وتعبر عن أدواته، وتجذب إليها جمهوراً من جيل شاب، قادر على تعداد مختلف صنوف الأسلحة، وسرد خط سير القتال في لعبة من مثل “الببجي”، والتباهي بحركات بطله الأسطوري، المقاتل المغامر والمدمر، في الوقت الذي يقهقه عالياً عند الحديث عن ذلك البطل الذي غصت به وبأخباره كتب التاريخ والحكايات.
ليست رغبة وتعلقاً بالماضي الذي أورثنا الكثير النجاحات ومثلها الإخفاقات، إنما هي صرخة للإبقاء على بعض من إنسانية تكاد تزول، حيث يتحول إنساننا المعاصر إلى روبوت من لحم ودم، بفعل مقصود أو غير مقصود من تلك التقنيات الحديثة التي تكوّن شخصيته، وأحياناً تعيد تكوينها، إمعاناً في استمرار عملية بيع الأوهام!.