كارل ماركس.. وبصل وثوم.. وبوراك

ثقافة 2021/04/26
...

  د. نصير جابر
 
لا يمكن أبدا تحديد العصر الذي بدأ فيه (الطبخ) كظاهرة انسانية مهمة ومصيريّة وحاسمة رافقت الكائن البشري منذ ظهوره وماتزال كضرورة حتمية لحياته ووجوده على هذه الأرض، على الرغم من الجهود الجبّارة التي بذلها علماء الوراثة العرقية (الفيلوجيني) وغيرهم من علماء الآثار والجغرافيا والتاريخ، ولكن من المؤكد أن هناك لحظات تاريخية فاصلة في هذا الدرب الطويل جدا مثل لحظة اكتشاف النار واكتشاف الدقيق والتحول من الخبز غير المختمر إلى الخبز المحمَّص المختمر الذي نعرفه الآن وتغيّر وتبدل مزاج المستهلك من النباتات والفواكه غير المطبوخة إلى اللحوم وغيرها من اللحظات المفصلية الأخرى.
  وما يهمني هنا ليس تاريخ الطبخ والطهو، ومتى بدأ؟، بل طبيعة العلاقات البشرية المعقدة التي أنتجت في المحصلة النهائية الوظائف المتعلقة بعملياته التراتبية التي جعلت من المرأة –في كثير من الحضارات - هي المسؤولة الأولى عن طبخ الطعام وإعداده اليومي وبوجبات متعددة تصل إلى ثلاث أو أكثر، وفي ظروف صعبة وقاهرة في أحيان كثيرة، لعل من أهمها شحّ الماء والوقود، فضلا عن عدم توفر أماكن الحفظ والخزن المريحة والآمنة، مما يجعل الطعام دائما عرضة للتلف بسرعة كبيرة.
المرأة وطوال قرون طويلة ناضلت بصمت ودأب ومثابرة وجديّة عالية وعانت من الإرهاق الشديد وقلة النوم وحوادث الحرق والرضّ والاختناق وربما الموت بسبب هذه الوظيفة المملّة والشاقة والروتينية التي اختارتها لها الحياة (الطاهية) التي تطبخ وتخبز لكي تشبع البطون الجائعة ولتكون في عملها هذا واحدة من ركائز الوجود المادية، فضلا عن دورها الكبير والرئيس (أمّ) ومربية، ولكن الغريب أن الرجل بعد سنوات قد تطول أو تقصر من الزواج والشراكة الحياتية معها يبدأ بالتنمر والتنكيل بها بسبب رائحة البصل أو الثوم العالقة بثيابها أو لون أصابعها وأظافرها المقزّز من أثر ألوان المطيبات أو تشقق بشرتها من استعمال المنظفات وغسل الأواني اليومي.  
فهو ينسى أو يتناسى أن هذا الجهد اليومي يجعلها حتما تفقد الكثير من وقتها، ومن ثمّ من أنوثتها واهتمامها بنفسها، وهو هنا يتخذ موقفا ذكوريا قامعا جدا حينما يقارنها ضمنا وبصورة غير مباشرة بنساء أخريات يراهن في (الحيز الاشهاري) الذي يراه أو يعيش خلاله، فهو يقارنها مثلا بزميلاته في العمل أو نجمات السينما من دون أن يدرك أن كل من يراها وهي معطرة متأنقة لها حصة كبيرة من رائحة الثوم والبصل وتشقق البشرة وجفافها. ولكن مساحة الدهشة الذهنية التي يتدرّب العقل الذكوري عليها تجمل له ذلك جدا وتسوّغ له هذه المقارنة الوهمية.
والغريب أيضا أنّ وظيفة الطباخ ممكن أن يتقبّلها الرجل كعمل لقاء أجر في بيوت الأثرياء أو قصور السلاطين أو فنادق الدرجة الأولى أو حتى المطاعم الشعبية ولكنه لا يتقبلها في بيته وأمام زوجته وأطفاله بوصفها انتقاصا من رجولته وهيبته وسطوته وسلطته.
والحقيقة أن كل ما نراه من تقاليد وأعراف اجتماعية عن هذه التراتبية مرتبط في أصله بمفاهيم الانتاج وقيمة العمل والملكية التي ناقشها  فريدريك أنجلز (1820 - 1895) في كتابة المهم والشهير: (أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة)، الذي اعتمد فيه كثيرا على ملاحظات كارل  
ماركس (1818 - 1883) صديقه وشريكه الفكري في تدبيج وتأصيل أسس  الماركسية. ولعل من يتابع الآن كيف تحول هؤلاء (الشيفات) إلى نجوم في عالم (السوشيال ميديا) يضارعون نجوم السينما شهرة وحضورا وغنى،   وأصبح بعضهم فارس أحلام الفتيات بعد أن أصبح العالم قرية كونية صغيرة يعاد فيها خلط المفاهيم واعادة انتاجها ولكنها تبقى بالضرورة  أسيرة لقوانين المال والانتاج. 
أحد هؤلاء أهل الطبخ والنفخ طباخ تركي شهير من أصول عربية اسمه (بوراك) (ولد عام 1994) يتابعه الملايين على صفحات التواصل الاجتماعي  وغيرها من القنوات المرئية.
بوراك هذا... لا أظنه سيطبخ في بيته حينما يتزوج بل سيجلس على تخت شرقي وثير ينتظر زوجته الآتية برائحة البصل والثوم.