حين طرقنا باب توما

ثقافة 2021/04/26
...

 حبيب السامر
 
عندما تهبط الطائرة على مدرج دولة ما، يأخذك الفضول إلى النظر عبر النافذة البيضوية الصغيرة، كي ترقب العوالم هناك.. وقتها، كنت قد رتبت في ذهنك برنامج الزيارة، من ينتظرك في المطار؟، أو ربما لديك رقم موبايل سائق تكسي قد أخذته من أحد الأصدقاء الذين اعتادوا السفر الى تلك الدولة، أو تعتمد على نفسك تماماً، في برنامج زيارتك.
سيأخذك الوقت في صالة المطار وأنت تراقب الحزام الناقل للحقائب، لتعثر على حقيبتك، تمسكها متباهيا الى نقطة تدفعك الى الخروج من المطار، الوجهة الحالية هي دمشق، ينتابك شعور بأنك ستتشمم الياسمين لحظة انطلاقك في شوارعها أو مقاهيها المنتشرة، حتما ستفكر أن تذهب بعد راحة قصيرة في السكن الى مقهى الروضة، أو قد يسحبك الوقت الى مقهى هافانا.
الوقت يمر سريعا، في النهار الدمشقي، وأنت تتعجل خطاك الى سوق الحميدية، تلمح ضجة المكان، أصوات باعة، وتنتبه إلى مروجي البضاعة، يسحبونك الى محالهم بحجج الإغواء برخص أسعارهم مقارنة بالآخرين، قد تغريك الفكرة ولكن تكتشف، لا فرق بينهم وبين باعة الطرقات، سوى طراوة الكلام والعرض الرشيق.
تعود الى مقهاك متعبا، تجد بعض أصدقاء يرحبون بك في الباحة المفتوحة على السماء الدمشقية، وسط تصاعد أصوات الدومينو والنرد ودخان الأركيلة، وهناك من يقرأ صحيفة أو كتابا.
ما أن يتلاشى النهار، حتى يصحبنا القمر في باب توما.. عوالم من حجر قديم، حكايات مطبوعة على واجهات البيوت العتيقة، التي حولّها بعض الناس الى مقاهٍ تراثية بلمسات فنية ساحرة.. الشوارع الضيقة الملتوية، تضفي الى شارع طويل يلم بين رصيفيه نسائم الجمال، يسحرك المكان، واجهات المحال التجارية، رائحة المشاوي، الوجوه المفعمة بتناوب الحديث تمنحك طاقة النظر الى سر جمالها، ومخارج حروفها الطرية، حقا، تضفي سحرها الى تخاطف الأضواء المنبعثة من أماكن متعددة. حتما تفكر أن تزور الحلبوني، لتطلِّع على مطابعها ورائحة الحبر هناك.
قد تعود ليلا الى (ركن الدين) أو (شارع بغداد)، تتخاطف في رأسك الصغير، الأضواء، الأجساد الساحرة، معالم المدينة النائمة على ركام التاريخ، العطر المنبعث من امرأة شقت صفنا، وهي تتمايل كشجرة ياسمين متكئة على حائط المبنى، تحاول أن تخترق النافذة، لكن عطرها نام على قمصاننا وغفا.
(لكي تصل الى باب توما/ عليك أن تتعطر بموسيقى شوارعها/ المغسولة بالنساء).
ولم يقف القلم عند هذا الحد بل انطلق أكثر:
(كلما فتحت نافذتي/ في ركن الدين/ زاحمني عطرك)
تسحبك هذه المدينة الساحرة وتقودك الى الغور بعيدا في معالم أخرى، لكنك تمضي وقتاً سريعا جدا:
(كيف لهذه المدينة المذابة بالياسمين/ أن تمنح روحي/ كل هذا العبق؟)
وكأني أسمع أحاديث النساء والرجال هناك، لهجة ساحرة وترفة، كأنها حبة توت غافية على غصن الشجرة، تحاول أن تسمع عزف المدينة، وتتلمس عذوبة الكلام، تمسح عن عينيك تعب اللحظات التي تسرق الوقت منك من دون سابق محبة..
(كلما مررت بشوارعك/ تذكرت يدك وهي ترسم روحي)
الحياة وسط هذه العوالم المنبثقة من ذاكرة اللحظات المرسومة بعناية في سجل السفر، تجدها طرية كلما ناديت اسم مدينة، انبثق منها عطر الكون.