جواد علي كسار
محمد جواد مغنية (1904 ـ 1979م) مفسّر القرآن الكريم «كونٌ جامع» قائمٌ بنفسه. تكشف صفحات حياة هذا الرجل عن ولع خاص بالقراءة لا يدركه إلا من يعيش الحالة ذاتها من رجال العلم والفكر والقلم.
يقول: «سلختُ أعواماً مديدة في القراءة، أنقّب عن شوارد الأفكار ونوادرها، أدرّب بها ذهني على النمو والتفكير، وأُرمم ما فيه من ثغرات وفجوات قبل أنْ أمسك بالقلم، وحتى الآن».
لقد بدأ شوطه في القراءة المكثّفة منذ أيام دراسته في النجف الأشرف، عندما جمع بين الدراسة في المناهج الدراسية المقرّرة والمطالعة الخارجية، من دون أنْ يجعل أحدهما معارضاً للآخر كما يفعل البعض. ثمّ واصل المسار ذاته بعد عودته إلى لبنان. وفي السنوات العشر الأولى حيث كانت تنقصه المصادر وهو مقيم في القرية بعيداً عن بيروت مركز الإشعاع الثقافي في بلده، سعى أنْ يسيطر على هذه المشكلة بفنون مختلفة، لا يخلو بعضها من طرافة.
يقول في شطرٍ من ذلك: «اتفقتُ مع قريب لي يبيع القصص والروايات التافهة في بيروت، على أنْ يجمع لي الجرائد والمجلاّت القديمة من مجلة الهلال والمقتطف ورسالة الزيات ويرسلها إليَّ، وهكذا كان». لا يزال يذكر غبطته بحزمة أرسلها له قريبه المذكور، مؤلفة من مئة عددٍ من أعداد مجلة الرسالة للسنين الأولى والثانية والثالثة.
أما عن طبيعة ما يقرأ، فيذكر: «قرأتُ الجرائد والمجلاّت، والكتب القصار والطوال ولا أزال». وفي نص آخر يصف حاله في المطالعة بعد عودته إلى لبنان، يقول: «قرأت المئات من الكتب الحديثة في موضوعات شتى، وطالعت العديد من المجلاّت العلميَّة والأدبيَّة والاجتماعيَّة، وتابعت الكثير من أنباء ما يحدث في الشرق والغرب من ثورات وأحداث، ومؤامرات وأحلاف. أما التقدّم العلمي المذهل ومنجزاته، وأخيراً الاستخدام الهائل للفضاء ومخترعاته، فقد كنت وما زلت أبحث عنه وأقرأه بلهفة ودهشة».
من فلسفته أنَّ العالِم قد يرتدُ جاهلاً إذا زهد في العلم وتوانى في تحصيله «وقد عرفت أكثر من واحد كانوا في النجف على قدرٍ كبيرٍ من المعرفة والذكاء، وحين عادوا كلٌ إلى قريته هجر الكتاب، فعاد إلى الغباء وحال الجهل». وهذه رؤية يؤيّدها الحديث الشريف «لا يزال الرجل عالماً ما طلب العلم، فإذا ظنّ أنه قد علم فقد جهل».
من طريف ما يستشهد به على هذه الحالة نظرة لشاعر صيني، يقول فيها: «يحس المفكِّر الذي تمضي عليه ثلاثة أيام دون أنْ يقرأ أنَّ حديثه قد فقد النكهة، كما يرى أنَّ وجهه أصبح كريهاً إذا نظر إليه في المرآة»!
كحالة تنم عن إحساسٍ عالٍ في تحمّل مسؤولية القلم، وأمانة الكلمة التي تُكتب إلى الناس، يقول مغنية: «ما من يوم يمرّ عليَّ لا أقرأ فيه ولا أكتب، إلاّ أحسست بوخز الضمير وتأنيبه، أو كأنَّ ينبوعاً كان في داخلي فجفّ ماؤه ونضب».