رضا المحمداوي
غابت أركان التأليف الدرامي التقليدي الثلاثة (قصة وسيناريو وحوار) عن تايتل مسلسل (المنطقة الحمراء) لمخرجهِ وممثله الأول باسم قهار، واكتفى بتوصيف غريب هو (محرر السيناريو) لمهند حيال، رغم أن السيناريو والتكنيك الفني المستخدم والقائم أساساً على التلاعب بالزمن وظهور واختفاء الشخصيات والطابع الغرائبي في الكثير من مواضع وتسلسل الأحداث وتتابعها هي المفردات الطاغية في سيناريو المسلسل بحلقاته السبع وحسناً فعل المسلسل بهذا التكثيف والإيجاز في بنائه الدرامي، لكن المسلسل لا يقوم على السيناريو فقط فهناك المضمون أو المحتوى.
ومنذ المشهد الأوّل يُقدَّمُ المسلسلُ بَطلَهُ المهزوم من الداخل عالم الآثار: يوسف عبد الفتاح العائد إلى العراق من فرنسا بعد هجرة دامتْ أكثر من 30 عاماً، حيث يدخل خائفاً مثل مجرم هارب عائد إلى سجنهِ كما يصف نفسه.
هذه الفرضية الدرامية سيعمل المسلسل على إثباتها بأنْ يجعل (يوسف) يغرق في بحر تناقضاته وأفعاله التي يجدُ نفسَهَ مضطراً للقيام بها وما يمرُّ به من ظروف غريبة - تماماً مثلما كان (يوسف) الطفل يغرق في نهر دجلة - وذلك حين يقع في فخ عصابة تهريب الآثار الرباعيَّة (ابو نوران) (كاظم القريشي) و(وديع) (إياد الطائي) النائب في البرلمان و(ساره) (زهراء غندور) و(رحمة/ رهف) (شهد الخطاب) وسيتم إحكام ذلك الفخ عليه حين يتورط في جريمة قتل ويكون شاهداً على جريمة أخرى ويشترك في عملية تهريب المخدرات من أجل الضغط عليه لتوريطه في القيام بصفقة تهريب الآثار التي يفترض به أنْ يقوم بها، لكنه لا يجد منفذاً للخروج من هذه المنطقة الخطرة. المنطقة الحمراء ومن مأزقه فيها سوى الانتحار في حوض الاستحمام وهو تنويع آخر لفكرة الغرق نفسها التي استحضرها وكرَّرَها المسلسل في سردهِ الصوري أكثر من مرة.
ورغم الروح الانهزاميَّة لـ(يوسف) إلاّ أنه ظل مُخلصاً لحكمة حضارية ذات طابع تأريخي حَمَلتْ ثيمة المسلسل الرئيسة وخلاصتها: (مَنْ لا يعرفُ تأريخَهُ لا يستطيع أنْ يرى مستقبلَهُ).
الشخصية والاشتباك مع الواقع الافتراضي
كان الجانب النفسي طاغياً في بناء وتركيب شخصية (يوسف) وَتَرَكَ آثارَهُ واضحةً في طريقة البناء الدرامي للمسلسل بأكمله، إذ إنَّ الاغتراب السايكولوجي الذي يمرُّ به قد ترك الباب مفتوحاً للزمن والأحداث والشخصيات أنْ تتداخل في ذاكرتهِ وسلسلة أفعالهِ حتى بدتْ لنا لفرط غرائبيتها وكأنها واقعٌ افتراضيٌّ أو مُتَخيْلٌ يعيشهُ (يوسف) مع نفسهِ وليس واقعاً درامياً مُجسَّداً فعلياً تعيشهُ الشخصية نفسها.
لنأخذ مثلاً شخصية الصبي الذي يتواجد في بيت (يوسف) ويتحدث إليه، إذ هو غير موجودٍ فعلياً في حياة (يوسف) لكنه يستحضرُهُ أمامَهُ ليجسَّد له شخصية الطفل البريء الذي كانهُ في مرحلة سابقة قبل ارتكابهِ لجريمة القتل. وفي الحلقة السادسة تظهر شخصية (داود) الأخ التوأم لـ(يوسف) والذي يُمثّل شخصيتَهُ (باسم قهار) نفسه، إذ يؤدي الدورين معاً لشخصيتين مختلفتين، وقد بَدَتْ شخصية (داود) هنا وكأنها النصف أو الوجه الآخر لـ(يوسف)، إذ تتجسّدُ لنا هنا ظاهرة الانشطار الدرامي للشخصيَّة لتنقسم الشخصيَّة الرئيسة إلى شطرين مختلفين، إذ تنشط الذاكرة ويحضر الخيال ويتراجع الواقع الدرامي الفعلي.
وهذا الاشتباك بين ما هو واقع افتراضي وواقع درامي سوف ينسحب على أحداثٍ أخرى مثل حرق البيت لنبقى معلقين بين حرق البيت فعلاً وبين بقاء الأمر مجرد شطحة خيال في ذاكرة مضطربة، ورُبَّما سنمضي مع لعبة الظهور والاختفاء إلى أقصاها لنكتشف أنَّ كلَّ ما جرى في المسلسل ليس له أيّ وجود وأنَّهُ كان محض خيال ومجرد وهم في ذاكرة عالم الآثار المضطرب نفسياً والخائف مثل طفلٍ لم يؤدِ واجبه المدرسي، حيث كان قد عادَ إلى فرنسا في غفلةٍ مِنّا ورُبَّما هو لم يأتِ للعراق نهائياً، وفي النهاية لم يكن هنالك مسلسل على الشاشة وإننا- نحن المشاهدين – كنا نتوهّم كل هذه الشخصيات والأحداث!
ومثل هذه الأجواء النفسية والطابع الغرائبي كان لا بُدَّ لها من معادل صوري ومعالجة فنيَّة خاصَّة بها وهذا ما كان من خلال عنصري الإضاءة والتصوير، إذ اعتماد المشاهد الليليَّة والإضاءة القاتمة مع غموض وعدم وضوح الصورة المشهديَّة وتعمد إضفاء مسحة من العتمة الشديدة واختفاء الدرجات اللونيَّة، فضلاً عن استخدام الكاميرا المتحركة وصورها الاهتزازيَّة والقلقة، وبعد ذلك جاء ضغط الصورة بالإطار السينمائي المستطيل القريب من إطار «السينما سكوب» المبالغ في صغر حجمِهِ ليزيد من ذلك الغموض وعدم الوضوح حتى بالنسبة لأداء الممثلين ووضوح وجوههم ودقة تعبيراتهم على تلك الشاشة المُشوّهة.
التمثيل والإخراج
وفي تجربة تجمع بين الأداء التمثيلي والإخراج معاً في وقتٍ واحدٍ لمسلسل درامي، يصبح الإمساك بالتفاحتين معاً في يدٍ واحدة عملاً صعباً، وهو ما تبدّى لنا في تجربة الفنان القدير باسم قهار ذلك، لأنَّ نمط الأداء الهادئ قد يناسب عالم الآثار (يوسف) العائد من فرنسا، لكنَّ هذا الهدوء والاسترخاء المبالغ به ليس مناسباً تماماً للشخصية ذاتها وقد تبدّلتْ وتحوّلتْ وأصبحتْ مشتركة في جريمة قتل وشاهدة على جريمة أخرى، فضلاً عن الضغط النفسي الكبير الذي أخذ يتعرَّض له من قبل العصابة ومن هنا كان لا بُدَّ لباسم أنْ ينتبه لهذا التحوّل والتبدّل والتغيير في شخصية (يوسف) ليغادر منطقة الأداء الهادئ والشخصية المسترخية الباردة لينتقل بهما ويعززهما بأداء متوتر وانفعالي ساخن ومشدود نفسياً يعكس حالة الاضطراب السلوكي ويصل به الى نمط الشخصيَّة (العصابيّة) القلقة للتعبير عن حالة الانقلاب والتغيير الذي حصل لتك الشخصية تمهيداً لعملية الانتحار التي يقوم بها في ذروة أزمتِهِ النفسية والعصبية.
لكني وجدتُ (باسم قهار) متمسّكاً بذلك الاسترخاء ومكتفياً بوجهٍ مُتجهّم وعبوس إزاء شخصية مضطربة نفسياً. على العكس تماماً ممَّا فعلَهُ في تجسّيدهِ لشخصية (داود) وما أضفاهُ من تنوعٍ وتميزٍ واضحين من حيث استعارة طبقة الصوت وطريقة الإلقاء وأسلوب الحوار.
أمّا المُمَثّلة الشابة (شهد الخطاب) فلمْ تمسك بجوانب وأبعاد شخصيتها على نحوٍ ناجحٍ في أدائها لشخصية (رحمة/ رهف)، فقد كانت الشخصية مُرَكّبَة ومُتكوّنة من أكثر من شخصية مُتحوّلة ومنقلبة على نفسها ومرتدة في انفعالاتها، لكن (شهد) بقيَتْ إزاء تلك الشخصية بنمط تعبيري واحد ولمْ نجدْ ما يُميَّز أداءها لهذه الشخصية عن تلك من حيث العواطف والانفعالات رغم انتقالها من شخصيَّة إلى أخرى.
وبقي الثنائي (كاظم القريشي وإياد الطائي) بما عُرِفَ عنهما من تمكّن ونضوج فني منسجمين ومتناغمين في أدائهما المشترك الرائع رغم ما يدور بين شخصيتيهما من تنافس وعداء درامي خفي وغير مُعلن.