التدرج في التكيف مع الخسارات وتقبلها في قصيدة (فن وحيد) لاليزابيث بيشوب

ثقافة 2021/04/28
...

  محمد تركي النصار
اليزابيث بيشوب هي شاعرة وكاتبة قصة أميركية ولدت عام 1911 وتوفيت عام 1979، حصلت على جائزة الولايات المتحدة كما حصلت على جائزة بولتيزر للشعر.
تتميز قصيدة (فن وحيد) لبيشوب بالبساطة الواضحة والتوتر العاطفي، وتتمركز حول ثيمة الفقدان والطريقة التي تتعامل بها المتحدثة، وبشكل أوسع القارئ مع هذه الثيمة.
تحول بيشوب الفقدان الى شكل فني وتبحث في امكانيات اتقان مهارات هذا الفن في الوقت الذي تدعونا لتحييد انفسنا عن الألم الذي يسببه الفقدان قدر الامكان.
عندما كان عمرها ثمانية أشهر فقط فقدت الشاعرة بيشوب أباها إذ استسلمت والدتها بعد ذلك للمرض العقلي، ثم تبع ذلك فقدان حبيبها، لذلك تعد هذه القصيدة تسجيلا لسيرة الشاعرة الشخصية، وفيها تصور مختلف حالات الفقد التي نمر بها في مراحل مختلفة من حياتنا، إذ تتباين الفقدانات في الاهمية حتى تبلغ ذروتها في فقدان شخص عزيز علينا.
عنوان القصيدة يشكل مفتاحا مهما للدخول للنص ففي كلمتين صغيرتين تضمن بيشوب القصيدة هدفها الأشمل: أن نزيح ألم الفقدان بأحداث نوع من التسوية مع كل شيء نفقده، من مفاتيح الباب الى البيوت الى الناس أولا، ثم التركيز على كيفية اتقان حقيقة الفقد عبر المراس وتحويل الحالة الى فن:
 
ليس صعبا اتقان فن الفقدان،
أشياء كثيرة مقدر لها أن تضيع،
لكن خسارتها ليست كارثة.
اخسر شيئا كل يوم، تقبل فقدان مفاتيح الباب
وهدر ساعة من الوقت عبثا،
ليس صعبا اتقان فن الخسران.
وبعدها جرب خسارات أكبر
أمكنة، أسماء، أسفار ألغيتها
لاشيء من ذلك يكون كارثيا.
 
في المقطع الأول تعرض بيشوب مقاصدها، فهي تريد التأكيد على أن الفقدان هو جزء من الوضع البشري. فنحن نضيع أشياء مهمة واخرى غير مهمة بشكل متكرر، وعلينا أن نتعايش مع هذه الحقيقة ونتقبلها بوصفها جزءا من طبيعة الحياة يتوجب اتقانها وتحويلها الى فن لتجنب اية مشاعر سلبية قوية أو كارثية قد تسببها حالات الفقدان المختلفة.
هاتان النقطتان ستتكرران خلال قصيدة (فن وحيد) ففي المقطع الثاني تخاطب الشاعرة القارئ بتسمية شيئين شائعين غالبا مانضيعهما وهما المفاتيح والوقت، هنا يجعلنا تدوير بناء القصيدة بين المقطعين الأول والثاني نتوقف لنتأمل ونفكر كيف تبدو عبثية حيرتنا ونحن نضيع مفاتيحنا، إذ تهون الشاعرة من هذا الفعل بتأكيد فكرتها وهي شمولية هاتين الحادثتين وتتحول المتحدثة من مخاطبة القارئ الى تصوير تجربتها في هذا المجال، وهنا تبدأ بيشوب بتحديد تفاصيل بناء قصيدتها الدقيقة واشاعة نغمة هادئة، (أضعت ساعة أمي) راسمة مدخلا يبدو آتيا من اللامكان.
على أية حال، تبدأ النغمة العفوية بالاختفاء، ويكون الحديث عن هذه الحالة الشخصية للمتحدثة حاضرا لرفع شحنات الجو العاطفي.
وفي حين يستمر المقطع بالتتابع، يبدو واضحا بأن هذا يأتي لاظهار شمولية الفقدان، وتصبح الصورة أكبر والمسافة أوسع، والنداء (وانظر) يعكس حالة من الألم العاطفي المخذول برغم النغمة العفوية. وهنا تدعونا بيشوب للنظر في فقداناتنا من منظار أشمل فالبيوت التي عشنا فيها لايعد فقدانها كارثيا باستثناء كلمة (المحبوبة) هنا، حقا انها مجرد أمكنة سكنا فيها لكننا عشنا الحب فيها أيضا:
 
لقد أضعت ساعة أمي
وبيتي الأخير، أو ماقبل الأخير من بيوتي الثلاثة فقدته أيضا
ليس صعبا اتقان فن الخسران.
 
وتعود الشاعرة في المقطع الخامس الى الماضي راسمة صورة أكبر جغرافيا، إذ تذكر المدن والقارات التي فقدتها معبرة عن ذلك بنغمة حزينة، إذ إنها فقدت مدنا جميلة، لكنها لاتصور ذلك على أنه كارثة بالرغم من اعترافها بالحنين الى تلك المدن والأماكن. وبمواجهة هذا المشهد يتساءل القارئ عند هذه النقطة في ما اذا كان فقدان قارة ليس أمرا كارثيا:
 
لقد أضعت مدينتين أحبهما وماهو أثمن، ممالك حزت عليها 
قارة ونهرين أشتاق اليهما
لكن الأمر ليس كارثيا.
ونلاحظ كيف أن القصيدة تكون مثل الرحلة بادئة بأشياء صغيرة مرورا بالفكرة والذاكرة ثم البيوت والقارات مكونة صورة كبيرة حتى النهاية بتكبير الحالة لتتضمن الضمير (أنت)، إذ يكون فقدان شخص عزيز صعب التعويض بوصفه كينونة لاتتكرر، هنا بدلا من إظهار ألم فقدان هذا الشخص تعمد الشاعرة الى القول بأننا يمكن أن نحاول معالجة الحالة من خلال المرور بفقدانات أقل أهمية لنتمكن من تحمل ألم الفقد الأكبر:
حتى فقدانك (بصوتك العذب)
وايماءاتك التي أحب
علي أن لا أكذب، تمثل دليلا على أن فن الفقدان 
ليس صعب الاتقان 
بالرغم من أن هذا يبدو، (اكتبها)
كأنه كارثة.
يتمثل صدى القصيدة الأساسي في قوس البيت الأخير: (أكتبها) اذ تخبرنا بيشوب بأنه من خلال كتابة تجاربها الشخصية مع الخسارات والفقدانات فإنها وجدت نوعا من التطهير وفرصة لمشاركة خلاصات تجاربها مع الاخرين لتخطي الاحساس الكارثي جراء خسارات محتومة لايمكن تفاديها.