سحر السرد في (بيجامة حمراء بدانتيلا بيضاء)

ثقافة 2021/04/28
...

  كمال عبد الرحمن
 
ينبغي على النص أن يكون خارجا من معطف الإدهاش والغرائبية، لكي ينضم الى قافلة الواقعية السحرية في الأدب، ففرض اللاواقعي على الواقع هو منح النص هوية سحرية ينماز بها عن سواه من النصوص التقليدية، بحيث يتمكن السارد من خلق بيئة من اللا منطق واللا معقول، جاءت من تعالق الواقع باللاواقعي، ولا تخلو مثل هذه النصوص من الإرباك والمغامرة الى حد المقامرة.. المقامرة التي لا ينجو منها إلا القليل.
نزار عبد الستار في قصته (بيجامة حمراء بدانتيلا بيضاء) يخرج عن المنطقي والمألوف مرة أخرى وينجح في ذلك، وبخاصة بعد روايته الشهيرة (ليلة الملاك)، إذ استلهم بعض شخوص روايته من الأسطورة وربطها بالواقع، وفي هذه القصة (بيجامة حمراء..) يأتي نزار بعقدة (الرجل الذي يرفض الموت)، فمن (بغداد) التي تموت كل يوم وترفض أن تموت، تنطلق حكاية عجيبة، رجل يجلس مطمئننا بين أحضان الموت، وما ان تزول عاصفة الانفجارات اليومية التي اشتهرت بها بغداد، يخرج (أسّو بنوني) منتفضا من غبار الدهشة، بعد أن عجز الموت عن اصطياده:
((احتاج أسّو الى أن ينجو سبع مرات من موت مؤكد كي ينتبه الى أعجوبة أن تفجر السيارات المفخخة، والعبوات الناسفة ويستثنى وحده من الهلاك. بقي مدة شهر ينتظر، بكآبة مفرطة، أن يصحح ملاك الموت ساعته، إلا أن صديق طفولته المعذبة القس زكّو حبش أخبره أن الملائكة دقيقون في مسألة الوقت ولا يمزحون أبدا)).
من هنا كان على ظاهرة (أسّو) الذي لايموت أن تتطور وتنشر بسرعة، بصفتها معجزة في زمن ولت فيه المعجزات، ويبدو ان بركة (البيجامة الحمراء) العائدة الى (ليلي) رمز الحب المحرَّم التي تحولت تدريجيا الى رمز القداسة، صارت تنتشر في كل مكان، عندما صارت أشياء ليلي الشخصية البلسم الشافي لكل بلاء:
((ــ إذا كانت بيجامتها تفعل كل هذا وتنقذنا من الموت، فماذا يمكن أن تفعله بلوزتها، أو أقلام كحلتها، وحمرة شفاهها؟ وأي معجزات كونية يمكن أن تقوم بها بخة من عطرها؟!)).
لا شك أن إسقاط اللاواقعي على الواقع عملية سردية يكتنفها الكثير من الخطورات، فالواقعية السحرية هي السحر بعينه، لا شيء يفتن أكثر من السرد، فنحن نبحث عنه حيث يمكن أن يكون وحيث لا يمكن، لا لشيء إلا من أجل أن نطمئن، فهو يمنحنا سلام الروح والعقل، يكيّفنا مع الوجود، ويكيّف الوجود مع مآلنا.. إنه يعقّل وجودنا في العالم ويجنبنا الرعب.. فمع السرد نفهم ولولاه لتعذرت عملية الفهم. 
والمنسي والمسكوت عنه.. السارد، ها هنا، يفوق المؤرخ فضولاً وحرية، فإذا كان المؤرخ يميل إلى العام والمجرد والمثال فإن السارد ينبش بحثاً عن الخاص والمشخص والاستثنائي.. كلاهما يجول الحقل ذاته غير أن السارد يمضي قطعاً، بحكم ممكنات وحقوق ومقتضيات السرد نحو أفق أوسع.. قد يحتاج المؤرخ أحياناً إلى قوة التخيل أو الأسطورة أو الخرافة أو التراث وغير ذلك من المرجعيات الثقافية التي تشد من أزر النص وتؤهله الى المضي في مصاف النصوص الناجحة، لكن السارد بحاجة إلى تلك القوة أكثر (ونقصد هنا "قوة الإبداع = المفاجأة/ الإدهاش/ الصعق)، فهو يحتاج "قوة الابداع" في كل وقت لصناعة نصوص عظيمة. السارد بحسب هذا التخريج كائن يتخيل.. الخيال، بمعنى ما، هو إعادة ترتيب لبنى الواقع، كسر لسياقاته المعروفة ولعب بزمانه ومكانه.
تتبلور ظاهرة أسّو بنوني وبيجامة ليلي الحمراء، لتشكل نوعا من الرقية التي تقضي على أي وباء:
((لا تقل لي إن بيجامة ليلي تفيد في علاج آلام المعدة.
أظهر القس زكّو جدية واثقة وقال:
ـــ هذا صحيح. هي مفيدة جدا. يمكنك أن تجرب
أخرج من محفظة نقوده قطعة مربعة من نايلون سميك في وسطها نسيج أحمر وقدمها للأب لومباردي قائلا:
ـــ ضعها في جيبك.. ستشعر بالراحة فورا.))
إن سحر السرد هو وليد الواقعية السحرية التي هي نسج فنيّ مبتكر يجمع بين نقيضين متكاملين، بين أحداث الواقع المعيش وعناصر الفانتازيا اللامعقول، إذ یختلط الواقعيّ والفانتازيا اختلاطاً يزيل الفواصل بينهما. هذا النوع من السرد، يفرض معايير جديدة کلّ الجدة في البنية السردية تتضاعف حاجتنا الماسّة إلی دراسة هذه المفارقات البنائية السحرية في الأدب العربي، إلی إبراز العناصر المكوّنة والمؤسسة للبنية السردية، ومدى إسهامها في تأسيس نصوص الواقعية السحرية، تركيزاً على اللغة بوصفها الأداة الأولى لتكوين المحكي السحري، ولها دور بارز في تشكيل العلاقة مع سائر مكوّنات البناء الفني. 
إنّ آليات السرد والتشكيل في الخطاب السحري تشتغل على التعاضد لإرساء نسيجٍ لغويّ عجائبيّ بأبعاده الدلالية وإغناء فاعلية التوصيف بوظائفه السحرية. فاللغة والوصف يتشابكان ويسيران في طريق واحدة نحو تكوين بنية تدهش القارئ بسحريتها، وتجريب أسلوبية ينتظم السرد بشعريته.
أرسل نزار عبد الستار الى العالم رسالة انسانية بقصته (بيجامة حمراء..)، رسالة ساخنة غاضبة تروي فاجعية المكون العراقي، وثيقة انذار غرائبية في طرحها واقعية في انسانيتها، رسالة عن العراقي الذي رفض الموت لكثرة ما مات، يموت كل يوم ولا يموت أبدا.. أبدا!