زوتوبيا عِراقيَّة

ثقافة 2021/04/28
...

  محمد جاسم الأسدي
لا ينبغي أن يفهم جلد الذات في هذه المحاولة - غير الفاضلة - على أنه ازدواجٌ في انتقاد روتين الدوائر الحكومية العراقية، فأغلب الظن أن نسق انتقاد الآخر، هو بسبب سوء فهمنا له، فما بالك في أصحاب الزهور المنفلتة والحمائم الكاتمة إذا ما انتقدنا جلالة نظامهم المحفوف بالخطوط الحمر، وقد يشفع لنا -نحن الاعترافيين- أننا رغم ازدواجيتنا متصالحون مع أنفسنا، لنعري مصيرنا أمام العيان..
 لكن كتاب "شخصية الفرد العراقي" لعالم الاجتماع الدكتور علي الوردي "قد" يُفند بعض زعمنا، إذ ينقل عن سيدة أميركية زارت العراق ذات مرة، فلاحظت أن العِراقي بارع في اكتشاف العيوب في غيره وماهر في عرضها على المستمع، فكُلٌّ ينسب خراب الوطن إلى الآخرين ناسياً أنه هو مسهم في هذا الخراب قليلاً أو كثيراً، والغريب أن موظفي الحكومة ينتقدون الحكومة كأن الحكومة مؤلفة من غِيرهم (ص68)، وتبدو موضوعية هذا الطرح اكثر وضوحاً بالنسبة للحالة العراقية في أيامنا، في ظل تنامي التمرد الوظيفي بين رتب الإدارة والتقصير في إداء الواجب، والحال أن المشكلة أخذت نَسقاً أكبر من حيث تطبع معظم موظفي الدولة على التماهل والعجز وغياب الإنتاجية، وهو ما يضطر المسؤول لتشكيل لجان تنتمي إلى الشريحة نفسها، فتتماهل وتعجز في أداء مهامها هي الأخرى!! إذ لا تكاد المراحل النهائية من أية مراجعة رسمية لدائرة حكومية "ما" تنتهي، حتى تنتهي عندها روح المواطن، وعندها يتحول صغر المواطن وتلطفه المبالغ به مع الموظفين المسؤولين، جزءاً من نواتج الإذلال وخشية عرقلة المعاملات!!، وليس من باب الفكاهة أن نعلق العلل المرضية على ما أورثه إنجاز المعاملات الرسمية في العراق..، ففي أحد المقاهي القريبة من أحد الدوائر صادفت شيخاً كهلاً يشكو لصديقه الذي لا يسمع جيدا ما فعلت به دائرة .. فهو يراجعهم - بحسب زعمه- منذ أشهر حتى أصابه الدوار، وبدا يستعين بحفيده، في الخروج من البيت، ولم تنجز معاملته!!، صديقه -هو الآخر- يحدثه عن معاملة أفدح خطباً، استمرت نحو ثلاث سنين، أورثته مرض التيفوئيد، نتيجة التعرض لحرارة الشمس، عبر نوافذ مراجعة الموظفين المدمنين على هواتفهم المكتظة بِمنشورات المثل العليا، والقيم ونقد الحكومات، مما يجعل متابعي منشوراتهم يراهم أنبياء متأخرين عن زمن النبوة...! وبينا أرمي بطرف أذني اليهما حتى تداخل رجل خمسيني العمر، وطلب أن يقدم مقترحه لهما، مع ابتسامة عريضة وقهقهة هستيرية، كان مقترحه أن يستعين كُل من لديه معاملة في دوائر الدولة بِمُعقب "متثعلب" لقاء مقدار من المال، تمثل ثمنا لجهوده وأتعابه في اتمامها، مع شيء من هدية خضراء تسير الأمر ...!!، كان ترحم الرجل الخمسيني على والده الذي مات ولم يُكمل معاملته، يثير الشفقة حقاً! لا اعرف لماذا أشعرني هذا الموقف بضرورة إعادة مشاهدة فيلم الانميشن الأميركي 2016 الكوميدي: (زوتوبيا)، والتي تعني المدينة الفاضلة، وهي مدينة يهيمن على دوائر الحكومة فيها الاحتيال والروتين الممل والإنجاز البطيء، ففي احد مشاهدهِ تبحث ضابطة مرور (زوتروبوليس) الأرنبة: (جودي هوبس) منذ الصباح عن عنوان سيارة دالة على قندس مفقود خلال يومين فقط، بتكليف عاجل من القائد (بوجو) وإلا يتم طردها، فتستعين الضابطة (جودي هوبس) بالثعلب الطيب (نيك وايلد) الذي يرافقها إلى دائرة مرورية تتبع رقم السيارة، كان الموظف المسؤول هو الحيوان الكسلان (فلاش)، وهو بطيء جداً، غاية الملل في رد التحية وكتابة رقم السيارة، ومما يثير جنونها ان الثعلب (نيك وايلد) يحدث الموظف الكسلان (فلاش) بنكتة بلا مناسبة، وهو ما يستغرق وقتاً هستيرياً بالنسبة لمهمة الضابطة، لتنتهي معرفة عنوان السيارة ومالكها وقت الغروب في الزمن الخاسر!!! إن نظير هذا المشهد البطيء جداً، في الحالة العراقية لا يخلو من تشابه في شخصية الثعلب الذي يكون مرة معقباً وأخرى متطفلاً وغيرها غير مناسبٍ، اما الزمن المهدور فهو معلق بمزاج الكسلان الذي يطبق أعراف الروتين ويخلق أبرع المعرقلات لتنتهي معاملة الموظف عند انتهاء آخر رمق يدخره لساعة اليسر.. وإذ لا يمكن التخلي عن جلد الذات، في انتقاد تفشي هذه الظواهر التي أصبحت طبعاً عُرفياً في تعامل منتسبي المؤسسات، فإن تعاظم ما ذكره الوردي في إشارته اللطيفة يصلح أن يكون مدخلاً مهماً لإعادة النظر في الزوتوبيا العراقية، بإزاء عصر التكنولوجيا الرقمية التي تعتمد السرعة والشفافية معياراً لتقييم جودة الأداء ورضا المتعاملين، وإلا فإن غياب الرقابة الذاتية ستورثنا التيفوئيد والدوار وتجعلنا نبحث عن الثعالب التي تروض "الكسلان" عبر نوافذ المراجعات المستمرة...!