اختراع موريل.. لا تنتظر شيئاً من الحياة كي لا تجازف بها

ثقافة 2021/04/28
...

 هدية حسين
 
بين الخيال العلمي والواقع المضطرب والحبكة البوليسية تمضي بنا الرواية لتغوص في الأسئلة الوجودية بحثاً عن عشبة الخلود، ليست تلك التي بحث عنها جلجامش، وإنما نقصد تلك المحاولة المستميتة في البحث عن وسيلة لكي يبقى الإنسان عصياً على الموت، وسيكون الحب طرفاً في تلك المحاولة، إذ يأتي من دون تخطيط وفي زمن مريب ومفتوح على الاحتمالات كلها، ليتحول الأمر ليس فقط البقاء على قيد الحياة لفترة محددة بل ليعيش الى الأبد عبر تقنية لم تكن متوفرة يوم كتب أدولفو روايته.
رجل متهم بجريمة قتل ومحكوم عليه بالإعدام، تطارده الشرطة فيهرب الى جزيرة غير مأهولة بالناس، مهددة بالفناء بفعل مرض غامض، وكان عليه أن يتعايش مع الحياة القاسية فيها، أن يجد طريقة للحصول على الطعام، أن يتقي الضواري ومد البحر المخيف الذي يجتاح الجزيرة من دون سابق إنذار فقد يجرفه وهو نائم فيموت غرقاً، وفي وحدته وانعزاله يقوم  بكتابة يومياته التي يصف فيها كل ما يراه ويجده في هذه الجزيرة، فهي كثيرة النباتات والأزهار الطبيعية والأشجار، وفيها كنيسة صغيرة ومتحف غريب التصميم يضم كتباً متنوعة موضوعة في خزانات مرتبة، لكن لا أحد يستخدم هذه الأبنية فهي مهجورة، وفي المتحف سيجد قبواً يأخذه الى باب سري، ثم الى قبو وحجرة متعددة الطبقات وغريبة المعمار، ووسط هذا الاكتشاف والتساؤلات بدأ يسمع خطوات كثيرة كأنها تجوب المكان من حوله، أتراها أشباح الذين كانوا هنا ثم ماتوا؟، أم أن البوليس وصل إليه؟، فجأة توقفت الخطوات، تلاشت، وعم صمت مرعب في المكان، إنها لحظات تقطع الأنفاس، أنفاس بطل الرواية، وأنفاس القارئ بعد أن أمعن المؤلف في خلق تلك التوجسات المخيفة لرجل هارب من وجه العدالة.
بعد أيام قليلة شاهد عدداً من الأشخاص يتجولون على الشاطئ، يغنون ويرقصون ويسبحون، وفيما بعد شاهدهم يتجولون في المتحف، من هم؟، وكيف جاؤوا؟، وماذا لو اكتشفوه؟، ستبدأ جولة جديدة من كتابة اليوميات عن هؤلاء، لكن شعلة الحب التي حملتها له امرأة من بينهم اتقدت في قلبه وغيرت وقع حياته، رآها ذات يوم تجلس على صخور الشاطئ تتأمل الغروب، سيتعلق بها، لكنه يخشى أن تشي به، أو أن يقود ظهوره كل يوم لرؤيتها الى أن يراه أحد الذين يتجولون قرب الشاطئ، أصبحت حياته معلقة بين أمرين، إما أن يتبع هذه المرأة ويضحي بكل احترازاته، وإما أن ينساها ويختفي في ركنه البعيد، وللقلب أهواؤه التي تغلبت علي الرجل فظل يراقبها لأيام، وقرر أن يأتي قبل مجيئها فلعلها تراه وتبدأ معه قصة حب، وها هي تلوح له، تسير بهدوء وتقترب منه لكنها تتجاوزه كما لو أنه غير موجود، وتجلس قريبة منه، إنها تمنحه الأمل في وقت يخشى فيه الآمال، يحاول الاقتراب منها حتى ليكاد يلمسها لكنها لا تحس بوجوده، هل هي شبح؟، أم أنها تتحداه؟، حتى الآخرون لم يكتشفوه حين يمر بقربهم، فهل هو ميت أم هم الموتى؟، هكذا أدخلنا الكاتب في جو غرائبي مشدود على خيط رفيع بين الواقع والمتخيل، وفي اليوم التالي الذي ذهب فيه الرجل حاملاً باقة أزهار، كانت قد حضرت كالعادة وحدث التجاهل نفسه، ثم جاء رجل سنعرف فيما بعد أنه لاعب تنس سبق أن رآه، جاء إليها وتحادثا، فاضطر هو الى الاختباء بين الصخور، وسمع بعضاً من حوارهما وعرف أنها تدعى فوستين وهو موريل.
صار ذهابه الى الصخور قرب الشاطئ يومياً لكي يراها، انشغل بها، في الوقت الذي كان يرصد الآخرين من حين لآخر في ظهورهم وحركاتهم، على الشاطئ أو في المتحف وكان موريل بينهم، اجتمع بهم ذات يوم ليخبرهم بأنه اخترع جهازاً وصور كل تحركاتهم ليبقوا في الحياة حتى بعد موتهم، ومن خلال ذلك الجهاز ستتجه بوصلة الرواية نحو الخيال العلمي، يشرح موريل فائدة اختراعه لتثبيت الحياة وتكرارها الى ما لانهاية، إنها رؤية لما ستكون عليه الحياة في المستقبل، للتذكير ثانية أن الرواية كتبت في العام 1940 قبل عصر القفزة الهائلة بالتكنولوجيا، لم ينشغل المجتمعون بهذا الاختراع فقط، بل أصبح شاغلاً للهارب الذي صار يلاحق هذا الاختراع ليعرف أسراره، متزامناً مع ملاحقاته لفوستين، متجاهلاً أنه هارب من وجه العدالة، وستستمر محاولاته لفك أسرار هذا الاختراع، وأثناء تلك المحاولات ستحدث أشياء كثيرة تُدخل القارئ في جو من الشك مثل بطل الرواية، من هم الموتى وأين هي الحقيقة؟ حتى نجد الإجابة في الصفحات الأخيرة من الرواية.