مَكْيَجة الابتذال الشعري في {العمود} المسابقاتي

ثقافة 2021/04/28
...

 عادل الصوري
 
كلما تفاءلنا بتقارب الموروث الشكلاني للقصيدة العربية "قصيدة الشطرين" من روح العصر، وملامسته لغته الحديثة؛ تأتي بعض المسابقات المعنية بالشعر؛ لتنسف هذا التفاؤل، عبر فضائح معيارية، تحاول إيهامنا أنها نقدٌ وتقويمٌ.
والمعروف أن مسابقة أمير الشعراء تعد من أهم المسابقات الشعرية في الوطن العربي خلال العقدين الاخيرين، وقد قدمت للجمهور الشعري (القليل جداً) أسماء سطعت بقوة، قبل أن تركن لانطفاء غريب؛ سببه سرعة التحولات، وتبدل الذائقة التي لم تعد قادرة على استيعاب قصائد قيلت ضمن معايير لا هوية محددة لها.
اللافت في هذه المسابقة أنها تُقدم في إطار برنامج تلفزيوني يبث حلقاته بشكل مباشر، بعد مرحلة تصفيات تتم بين مئة وخمسين شاعراً وشاعرة، ثم تقوم اللجنة باختيار عشرين شاعراً منهم لمرحلة البث المباشر.
وهناك شبه إجماع على أن غياب المعيار النقدي يبدو أشدَّ سطوعاً في مرحلة التصفيات التي غالباً لا يتم عرضُها بشكل كامل على الشاشة، إذ نرى النكتة بدل التقييم النقدي، والسخرية من ضعف قصيدة الشاعر، ثم تقرر اللجنة منحه إجازة المرور للمرحلة اللاحقة، وكأننا أمام واقع تأصيلي للابتذال المرتكز على مواضيع لها صلة بالعاطفة والأنسنة من قبيل مدح الأب والأم، أو التغني بحب الأوطان، من خلال لغة ضعيفة تقريرية لا دهشة فيها ولا جديد.
وتأتي حلقات البث المباشر؛ لتتم فيها عملية (مَكْيَجة) الابتذال. ففي مراحل المنافسة الأولى في البث المباشر؛ تُقدم قصائد جادة وجاذبة لانتباه التلقي، حتى مع التشابه في موضوعاتها، ومنها موضوع (التصوف) الذي وصفته في مقال سابق بأنه "فيروس يضرب الجسد الشعري"، فضلاً عن استعراض بعض المتنافسين بتقديم قصائد مكتوبة على بعض البحور المركبة والمهجورة، وكأنَّ منظورهم للقوة الشعرية أنها تقاس بالكتابة على هذه البحور، فنجد المتنافس خاضعاً كجنديٍّ مسكين، ليس له إلا تقديم فروض ولاء وطاعة الجملة الشعرية لسلطة الوحدة الوزنية التي اختارها لقصيدته.
ولعل تقنية تصويت الجمهور المعتمدة في البرنامج من أهم أسباب انحدار هذا البرنامج، وفقدان معيارية الجودة الشعرية فيه؛ لأن التصويت يأتي لـ (ابن الوطن) وليس للشاعر المجيد والمبدع، وهو ما يؤكد أن لا قيمة للشعر في أذهان عامة الناس التي وإن استجابت لنداءات الاستجداء الأنيق؛ من أجل التصويت لهذا الشاعر أو ذاك، فإنها تستجيب غير مهتمة بقيمة الشاعر أو المستوى الفني للقصيدة التي قَدَّمها، الأمر الذي يجعل فرص المبدعين الحقيقيين شبه معدومة، في وقت ترتفع حظوظ متنافسي الدول الاقتصادية الكبرى.
أما المراحل النهائية للتنافس، فحدث ولا حرج، إذ تفرض لجنة تحكيم المسابقة على الشعراء الكتابة في موضوع محدد، وغالباً لا يكون ذا علاقة بالانفعالات والأحاسيس التي تستفز ملكات الشعور، فيطلب من المتنافسين الكتابة عن إنجاز تكنولوجي قامت به الدولة التي تحتضن المسابقة، أو أي موضوع يُمَجِّد بالدولة؛ ليبدأ سُعار التملق؛ من أجل نيل رضا الأنساق المخفية للمسابقة التي جعلت كثيرين للأسف يتنازلون عن خصوصياتهم التي قد تتقاطع مع مزاج الدولة حاضنة المسابقة؛ للظهور مثل (الأراجوزات) الشعرية أمام لجنة تحكيمية تبدو مكبلة بالنسق المخفي 
للمسابقة.
وليس للمتابع إلا الذهول وهو يشاهد ويستمع لقصيدة المتنافس التي تجتهد في تقديم دولة المسابقة على أنها من الدول السباقة المؤسسة للحضارة البشرية لدرجة تجعل أحد أعضاء اللجنة ينفض عنه غبار الصمت ليخاطب المتنافس متسائلاً: "ألا تعرف غير شعر المديح" فيبدأ المتنافس بالتململ وكأنه الراعي الحصري للمسابقة وليس أحد المتنافسين فيها. وبقدرة قادر يبدل عضو اللجنة رأيه ليصف المتنافس بأنه شاعر كبير، ثم يغدق بالإطراء النقدي على متنافس آخر مدح أضعاف مديح الذي قبله، ثم يُمنح اللقب لأحد المادحين في حفلة بليدة لشراء الحضارة والثقافة عبر قصيدة عمودية بائسة.