تأريخانيَّة السرد.. قراءة في رواية «لقلق النبي يونس»

منصة 2021/05/01
...

  هدى عبد الحر
 
 (الكوفة وهي تمنحني وسام الشرف عن أوّل رواية أدبية تكتبُ عنها منذ تأسيسها سنة 17هـ)، هكذا كتب القاص والروائي (محمود عثمان) في الصفحة الأولى من مدونته السردية الجميلة والمدهشة التي تكونت من (262) صفحة والصادر عن منشورات المالكي 2020 وهذا الاعتراف من العتبات التي أراها مهمة في تشويق المتلقي وإخباره بطريقة غير مباشرة أنَّ الفضاء السردي الذي هو على وشك الدخول إليه لا يزال بكراً لم تدخله خيالات السّراد وأنّه إزاء أمكنة وأزمنة لم تؤرشف بعد أو تُستهلك في أعمال روائيَّة سابقة وأن الفضاء لا يزال مدهشاً ويستحق التجوال في أزقته وشوارعه وموروثه وحكاياته.
وهذه الرواية ليست الأولى في المشروع السردي للكاتب، فقد سبق له أنْ قارب التأريخ النجفي في رواية (حي السعد) الصادرة عام 2009عن دار المواهب للطباعة في النجف ورواية: (ما انكشف من حجر الصوان) عند دار سطور 2015 التي تتحدث عن ثورة النجف المنسية 1918.
إنّ الرجوع إلى الماضي، القريب منه أو البعيد هو مغامرة بالنسبة للسارد لأنّه سيكون أمام مسؤوليَّة مضاعفة، ففضلاً عن الأمانة الموضوعيَّة والفنيَّة التي لا بُدّ أنْ يتحلى بها كلّ كاتب يغور في تاريخ مجتمعه يجب أنْ يتحلى أيضا بالأمانة التأريخيَّة والدقّة في نقل الأخبار ورسم الشخصيات وعدم الابتعاد عن وجودها الواقعي المعروف والمحفوظ في الأذهان والوثائق.
وقد استطاع الروائي بلغة سهلة جداً وواضحة أنْ يقدّم لنا (الكوفة) كما أحبّها وعرفها ورسمها في خياله الخصب، فوصف ما يجب أنْ يوصف من أماكن الحركة والحياة فيها، فهناك المقاهي والشوارع وحركة (الربلات) - وسيلة التنقل الشائعة قديماً - ووجوه الناس وحضورهم الإنساني داخل المدينة العتيقة التي تمتدّ جذورها إلى أكثر من ألف سنة، ولعلَّ من أهم أسباب نجاح أي منجز سردي هو أنْ يجعلك الروائي تقتنع بما يروي فتتابعه بشغفٍ ومحبة وكأنك تمشي معه خطوة خطوة وقد نجح في ذلك الكاتب جداً.
كما أجاد في لمحات ذكية كثيرة أخرى لعلَّ من أهمها رجوعه إلى تراثها المدوّن وموروثها الحكائي الشفاهي وقد حاول أنْ يلتقط منه ما يصلح باباً لولوج السرد فكانت أسطورة (اللقلق) الذي يقف على قبّة النبي يونس عنواناً موفقاً جداً، هذا (اللقلق) الذي صار أيقونة شعبيَّة، إذ تنذر له النسوة النذور وهنّ راغبات بتحقيق مطالبهن وحاجاتهن. كما أجاد وهو يعود إلى جغرافيَّة المدينة فيدون لنا أسماء الشوارع والأزقة والباحات الضيقة في محاولة لتثبيت المكان في ذاكرة المتلقي: (الجديدة، الجمهورية، الرشادية، عكد اللوي، الجادة العريضة، الجسر، كورنيش الكوفة، شارع السكة، الزوية، سوق البو شمسه، جامع البو جبك، مدرسة المختارية، حمام المالح، مكينة الأعسم، قصر الملك، مدرسة الكوفة، البو نعمان، البو حداري، القزوينيَّة، النفاخية، البو ماضي، آل عيسى)، وكذلك شخوص المدينة البارزين، فنجد ذكراً لـ (وضاح، ادريس، عبد مسلم كونه، كلباد، حميدي هادي، مهدي كوزان، سيد ضاوي).
وما يلفت النظر في هذه الرواية أيضاً أنَّ عنوانها الرئيس قسّم على مقاطع ثلاثة.. مقطعان بينهما حرف العطف (الواو): (لقلق النبي يونس) (مخطوطة التأريخ الآخر) ومقطع فرعي كُتب أسفل الصفحة (رواية عن الكوفة وعكد اللوى)، وهذا يدلُّ على قلق مشروع انتاب الكاتب وهو يحاول أنْ يعرّف بالمدينة بأكثر من مدخل، فوجد أنَّ الإشارة لها بعنوانات متعدّدة يعطي المتلقي جرعة كبيرة من التشويق يجعله في شوق للدخول إلى عالمها الزاخر.
وما يلفت النظر أيضا ويحسب للكاتب أنه جعل هيكل الرواية الفني يضج بالحركة والحياة والتبدّل، ففي كل مفاصل السرد هناك نبضات دائمة تجعل المدينة حيّة على الورق مثلما هي حيّة في خيال القارئ وهو يستحضر تأريخها القديم والجديد.