غريس غيفورد.. قصة حب أشعلت الثورة الايرلندية

بانوراما 2021/05/02
...

  سيث فيرانتي
    ترجمة: بهاء سلمان
كان السيد ستوكر على وشك إغلاق محل مجوهراته بشارع غريفتون عندما دخلت على عجالة شابة جذّابة لتبحث عن خاتم زواج. كان من الواضح أن المرأة تبكي. “يفترض بك عدم البكاء مع تحضيرك للزواج،” نصحها البائع. ومع تواصل سكب الدموع على خديها، إشترت غريس غيفورد بسرعة أحد أغلى الخواتم الموجودة في المحل وغادرت؛ فقد كان لديها موعد تريد موافاته.
 
 
تلك الأحداث، وكما سردت ضمن كتاب المؤلفة ماريا أونيل الموسوم “حرية غريس غيفورد بلونكيت الآيرلندية: عروس 1916 المأساوية”، حصلت مساء الثالث من آيار 1916، عند الساعة السادسة، حيث كانت متوجهة نحو سجن كلينهام للاقتران بخطيبها جوزيف بلونكيت، وسط منطقة مظلمة محصورة بالجدران داخل ثكنات ريتشموند.
عندما رأت غريس أخيرا زوجها المفترض منتصف الليل، كان مبتسما وغير خائف؛ كان متلهفا للزواج. كان مستعدا لأمر آخر أيضا، لكن بعيد جدا عن اللهفة، لما سيحدث لاحقا: الموت على يد فرقة الإعدام. ومع جلبه سيرا إلى مصلى السجن، أزال الحارس الأصفاد، ليؤدي قس السجن مراسيم الزواج. وتبودلت التعهدات، لكن لم يسمح لغريس بالبقاء مع زوجها الجديد لأي وقت قبل إخراجها بسرعة من السجن.
بحلول الساعة الثانية ليلا، عادت لرؤيته للمرة الأخيرة، ومنحا عشر دقائق، بوجود الكثير من الحراس، وفقا للمؤلفة آنا كلير في كتابها “الثوار غير المحتلمين: فتيات غيفورد والكفاح للحرية الايرلندية”. لحظات معدودة للاقتران، ولحظات أكثر بقليل للوداع، وصارا زوجين لأربع ساعات فقط. كان على العريس، القيادي في حركة “ثورة عيد الفصح”، مواجهة فرقة الإعدام عند فناء الثكنات بحلول الفجر. لقد كانت “وسيلة مأساوية لا توصف لأي عروس تنوي الزواج”، كما تقول ماريتا كونلون ماكينا، مؤلفة كتاب “شقيقات التمرّد”، وتضيف: “في مصلى السجن وسط حالة من شبه الظلام، لم يتمكن الطرفان من التحدث لبعضهما البعض. تحرّك جوزيف قليلا، كانت الأجواء رومانسية، وحزينة ومأساوية للغاية على أية إمرأة للزواج بمن تحب، مع معرفتها بأنه سيعدم خلال ساعة أو ساعتين”.
 
تعاطف كبير
سرعان ما انتشرت الأخبار؛ ففي السابع من نفس الشهر، أخبرت صحيفة نيويورك تايمز قرّاءها أن الحكايات القليلة ضمن الماساة الآيرلندية “قد انتزعت قلوب اولئك الذين شهدوها، كما حصل من ارتباط مستعجل لهذا الثنائي السياسي المتوله بالحب”، بالتالي أضفت رومانسية على الحكاية، وبرّزت إنسانية قادة الثورة، وجلبت انتباه العالم بأجمعه للمحنة الايرلندية. 
“كان زواجها على ضوء الشموع، بسبب إنقطاع الغاز خلال الثورة، مما غيّر الرأي العام”، بحسب المؤلفة سينيد ماكول، التي كتبت عن الثورة. “لقد صوّرت غريس كزوجة وأرملة، وصارت عنوانا لأبيات شعر ملحمية، وهي وسيلة مضمونة لنشر القصة،” مشيرة إلى لحن “غريس” المشهور الذي اطلق خلال الثمانينيات من قبل جيم ماكان.
حددت قسيمة الزواج شخصية جوزيف بأنه “العازب” وغريس بأنه “العانس”، مدرجة عملهما بأنهما “رجل نبيل” و”فنانة”. ولدت غريس سنة 1888 في دبلن، ونشأت كبروتستانتية، أحد الوالدين كان كاثوليكيا والآخر بروتستانتيا، وهي ثاني أصغر الأبناء من بين 12 شقيقا. كان جوزيف، أصغر قادة الثورة الايرلندية، صحفيا وشاعرا من أسرة ثرية، شاب لامع عرف بارتدائه وشاحا حريريا وحمله لسيف مميّز.
عندما بدأ جوزيف بمغازلة غريس، كان محررا لدى صحيفة “آيريش ريفيو” الوطنية التوجه، وساعد سرا خطة الثورة ضد الحكم البريطاني. لم يوافق والدا غريس على الزواج بسبب اعتلال صحة جوزيف، أصيب بالسل في صباه، لكنهما عشقا بعضهما البعض، وقررا الزواج يوم 23 نيسان، الموافق لأحد عيد الفصح سنة 1916. اختلفت الروايات عن سبب تأجيل عقد القران؛ وبأي حال، لم تكن أصوات المدافع لتعطي أية فرصة لسماع أصوات أجراس الكنيسة مع نشوب قتال محتدم وسط الشوارع صبيحة يوم اثنين عيد الفصح.
 
كفاح مرير
تطوّرت غريس لتصير “رسامة كاريكاتير رائعة بعين حادة، وفنانة جيّدة بفطنة طبيعية،” كما تقول ماكول. وكانت غالبا ما تأتي الى مسرح في دبلن كان جوزيف قد شكله مع ثوري آخر، توماس ماكدون، الذي تزوّج من موريل، شقيقة غريس؛ وكلتا الشقيقتين ترملتا خلال 24 ساعة من زواجهما. “كانت غريس تجد نفسها في الفن والمسرح، وخارج ذلك كانت تشعر بثقة أقل”، بحسب ماكينا، منوّهة إلى ضجرها من الأمور التي كانت لا تثير اهتمامها، وهي لم تكن لديها أية توجهات سياسية. ولم تنضم إلى أية جهة سياسية تطالب بحقوق المرأة أو العمال أو غيرها. لكن بعد إعدام زوجها، تغيّر كل ذلك، فقد عملت الأرملة الشابة في السياسة، موظفة مصيبتها لتحشيد الناس لنصرة قضية تحويل ايرلندا إلى جمهورية.
يقول ماكول: “صارت غريس رمزا للجمهورية بعد الثورة وحرب الاستقلال”. وبانتخابها سنة 1917 بموقع قيادي ضمن حزب شين فين (الجناح السياسي للجيش الجمهوري الآيرلندي)، وظفت غريس موقعها وفنها لإنشاء دعاية لدعم الحزب الوليد للحكومة. لكن بعد نقاشات حول المعاهدة الأنغلو ايرلندية بين 1921 و1922، “رفضت غريس المعاهدة، ودخلت سجن كلينهام سنة 1923 خلال حربنا الاهلية،” بحسب ماكول. 
وأثناء سجنها، رسمت صورة للسيدة العذراء وطفلها داخل زنزانتها، لا يزال بالإمكان رؤيتها إلى يومنا هذا.
أطلق سراحها بعد عدة شهور، لكن عندما انتهت الأعمال العدائية، وجدت نفسها ضمن الطرف الخاسر من الرأي العام، لكونها جمهورية مناهضة للاتفاقية؛ وهذا معناه أن تصبح منبوذة، وكفاحها للحصول على عمل. ولم تتزوّج مرة أخرى، وكان عليها الاعتماد على فنها لتلبية احتياجاتها، فاستمرت برسم الكاريكاتير للصحف والمجلات، حتى توفيت سنة 1955، وحضر رئيس ايرلندا شين كيلي جنازتها، مبديا إجلاله وعرفانه لبطلة ايرلندية.