زينب وآيات.. جيل جديد من العراقيات يختبرن العمل

بانوراما 2021/05/02
...

  وكالة أسوشيتد برس
    ترجمة: ليندا أدور
في العراق، قلة قليلة فقط من الفتيات والنساء اللواتي قررن تجنب الوظائف المكتبية المملة التي عادة ما تسلم لمهندسات النفط، ليخترن بدلا من ذلك أن يصبحن رائدات في مجال صناعة النفط، ويرتدين القبعات الصلبة ويتولين أعمالا شاقة في مواقع الحفر بعموم أنحاء البلاد.
 
كان الفجر يقترب، ولا تزال زينب أمجد مستيقظة، لم تنم طوال الليل، حيث تعمل في منصة نفطية جنوبي العراق، اذ تقوم بإنزال جهاز استشعار الى أعماق مظلمة داخل البئر حتى تكشف موجات السونار عن وجود النفط الخام الشريان المغذي الرئيس لاقتصاد بلادها. في مكان آخر من محافظة البصرة الغنية بالنفط، تشرف آيات روضان على تركيب أنابيب كبيرة للحفر، التي ستحفر في الأرض لترسل بيانات مهمة عن التكوينات الصخرية فيها الى شاشات مثبتة على بعد أمتار قليلة، تتولى روضان تحليلها. 
 
لا يتحملها سوى الرجال
تمثل زينب وآيات (كلتاهما 24 عاما) جزءا من جيل جديد من العراقيات الموهوبات اللواتي يختبرن حدود التقاليد المعروفة من قبل مجتمعهن المحافظ، وإن إصرارهن على إيجاد وظائف في صناعة لطالما هيمن عليها الرجال تأريخيا، يعد مثالا واضحا على إن مجتمع الشباب المزدهر يجد نفسه اليوم، وبنحو متزايد، برغم التقاليد المحافظة والراسخة التي تسود قلب العراق النفطي. فالساعات الطويلة التي تقضيها كل من زينب وآيات في حقول النفط تمر ببطء، في ظل ظروف جوية قاسية تعيشها مدينة البصرة، وغالبا ما يتلقين التساؤل عما يدفعهن للعمل تحت هذه الظروف، باعتبارهن نساء. تقول زينب، التي تقضي ستة أسابيع في كل مرة تذهب فيها الى موقع الحفر: “يخبرونني ان هذه البيئة الميدانية القاسية، لا يتحملها سوى الرجال”، مضيفة: “إذا ما استسلمت لمشاعر القنوط، فسأثبت فشلي وبأنهم على حق”. 
بعد إنخفاض أسعار النفط الذي تسبب به جائحة كورونا والخلافات الدولية، بدأت تلوح بوادر الانتعاش في العراق، فوفقا لإحصاءات وزارة النفط، لمطلع هذا العام، بدأت صادرات البلد النفطية تلامس حافة ثلاثة ملايين برميل يوميا وباسعار تناهز الستين دولارا للبرميل الواحد. بالنسبة لمعظم العراقيين، يمكن أن تلخص صناعة النفط بهذه الأرقام، لكن زينب وآيات لديهما وجهة نظر أكثر دقة، اذ تمثل كل بئر مجموعة تحديات، بعضها بحاجة الى المزيد من الضغط للضخ، بينما البعض الآخر مثقلة بالغاز السام، تقول زينب: “كل حقل منها يبدو كالذهاب الى بلد جديد”. وللأهمية الكبرى لصناعة النفط بالنسبة لاقتصاد البلاد، فإن برامج البتروكيمياويات لدى كليات الهندسة تكون مخصصة للطلبة الحاصلين على معدلات عالية، وقد كانت كلا الفتاتين من بين الطلبة الحائزين لنسبة الخمسة بالمئة الأعلى من خريجي جامعة البصرة للعام 2018. 
 
“وظفوني وسترون”
منذ أيام الدراسة، وعملية الحفر تثير دهشتهن، فقد كان عالما جديدا بالنسبة لهن بلغته الخاصة ككلمة spudding - وتعني بدء عمليات الحفر، وشجرة الميلاد وتعني أعلى رأس البئر. ومع كل يوم عمل يقحمهن انفسهن في الأمور الخفية الكامنة تحت القشرة الأرضية، يستخدمن خلالها أدوات تمكنهن من النظر الى مكونات المعادن والطين، حتى العثور على النفط الثمين، تقول آيات: “انها تشبه إلقاء الحجر في الماء لدراسة تموجاته”.
 لكي تعمل في هذا المجال أدركت زينب، ابنة الطبيبين، ان عليها الحصول على وظيفة لدى شركة نفط عالمية، ولأجل ذلك، كان عليها أن تكون متميزة، لا سيما أنها سيتم نقلها الى العمل المكتبي للشركات الحكومية، ولذلك تقول: “في أوقات الفراغ، والعطل والإجازات، كنت ألتحق بدورات تدريبية، وأشترك في أي 
برنامج. 
لكن مع قدوم الشركات الأجنبية وبحثها عن موظفين جدد، كانت هي الخيار الواضح لها، فاستغلت زينب الفرصة وتقدمت للوظيفة بالفعل، وتطلب الأمر خضوعها لعدة اختبارات صعبة اجتازتها الواحد تلو الآخر حتى وصلت الى المقابلة النهائية، ولدى سؤالها إن كانت قادرة على أداء الوظيفة قالت: “وظفوني وستشاهدون بأنفسكم”. في غضون شهرين، استبدلت قبعتها الخضراء الصلبة بواحدة بيضاء لامعة، التي ترمز الى تحولها الى مشرفة ولم تعد متدربة، أمر تم بأسرع من المعتاد. 
أما آيات، التي تعمل لدى الشركة ذاتها التي تعمل بها زينب، فهي الأخرى، كانت تعلم أن عليها أن تعمل بجهد أكبر لتحقق النجاح، ففي إحدى المرات، عندما اضطر فريقها لإجراء “مسار جانبي” نادر للبئر- حفر حفرة أخرى بجوار الأصلية- بقيت مستيقظة طوال الليل، تقول: “لم أنم لمدة 24 ساعة كاملة، أردت فهم العملية بأكملها، من البداية الى النهاية”.
 
سخرية دفعت للنجاح
كان الأقارب والأصدقاء وحتى الأساتذة، مثبطين ومحبطين لهما، وغالبا ما يواجهن السؤال عن: ماذا عن العمل البدني الشاق؟ وماذا عن حر البصرة الحارق؟ والعيش في موقع لأشهر في كل مرة؟ وعن العقارب التي تجوب المستودعات ليلا؟. 
تبتسم آيات وتجيب: “كان أساتذتي وزملائي يضحكون ويسخرون مني، بأنني لن أنجح بينما أسعى اليه وتحقيق حلمي، لكن هذا كان يدفعني أكثر نحو ما أصبو اليه”. تشير آيات الى أن  والديها من أشد الداعمين لها، فوالدتها تعمل مهندسة مدنية، ووالدها قبطان ناقلة نفطية، غالبا ما يقضي شهورا في البحر، فهما: “يفهمان حقيقة شغفي”، وتعرب عن أملها بتأسيس رابطة تجمع المهندسات العراقيات اللواتي يمتلكن التفكير نفسه، فلا وجود لشيء كهذا حاليا. ورغم المخاطر التي قد تتعرضان لها أثناء عملهما في الحقول النفطية، مع تحول بعض الاحتجاجات خارج الحقل النفطي الى أعمال عنف ضد العاملين فيه، لكن الفتاتين، تبديان الاستعداد لتحمل هذه المصاعب، فبالكاد، تجد زينب وقتا للفراغ، اذ كانت الساعة هي الحادية عشرة ليلا، وكان عليها العودة الى موقع العمل، وتعلق: “الحفر لا يتوقف أبدا”.