هنا القاهرة.. أم الدنيا

ثقافة 2021/05/02
...

  حبيب السامر
 
منذ مدة، وأنا أحاول أن أتذكر بعض لحظات وامضة في ذاكرتي، لتلك الأيام التي أمضيتها في القاهرة، مدينة ضاجة بالحياة، تصحو على أصوات باعتها وتنام على أصواتهم أيضا، على امتداد ساعات اليوم، حركة دائبة، أصوات مختلفة تخترق الرأس، كان الفندق في الممر الضيق قبالة محل الحلواني الشهير، تصعد الى غرفه العلوية بمصعد للمرة الأولى أصادف مثله، سلك بعتلة يحمل سلة حديدية يرفعنا الى الأعلى، لا بد أن تغلق الباب الحديدي الذي يطل على الممر الضيق، كي تنعم برحلة قصيرة وسط ضجة الفرامل.
أمضيت الليلة الأولى صحبة صديق كان قد سبقني بسفره، كنت في شوق كبير أن أستثمر كل 
لحظة في زيارتي القصيرة، على الرغم من معرفتي الأكيدة بأن الوقت سيتسرب من دون أن نمسك به، كل هذه الأفكار تدور في ذهني، 
وأنا أتأمل بطاقة سفري وقد تسرب من زمنها هذا اليوم، وفي الليلة القابلة انتقلت الى سكن منفرد، خلف سينما ميامي وسط البلد 
في شارع طلعت حرب في القاهرة.
الجو الصيفي، يعطيك فرصة أكبر للتجوال في المدينة المزحومة في كل شيء، كان رأسي يحمل أماكن عدة وفي مقدمتها مكتبة مدبولي التي كان من روادها يقف في مقدمتهم نجيب محفوظ، يوسف السباعي، إحسان عبد القدوس، عباس العقاد، جمال الغيطاني، ويوسف القعيد، ومقهى ريش الذي تأسس عام 1908، والذي يرتاده فضلا عن الأسماء في السابق، أم كلثوم، عبد الوهاب، وتوفيق الحكيم.
أقنعني صديقي أن نذهب الى ميدان التحرير، ونلتقط بعض صور في هذا المكان الواسع الذي شهد الثورات وهدرت أصوات الناس الذين واصلوا الليل بالنهار كي يحققوا حلمهم، الساحة واسعة وتشرف على كل شيء.. وقريبا منها يقع المطعم الصغير.. دخلنا المطعم ورائحة المأكولات المصرية تخترق الحواس، ذكرتني أيام كنا نذهب الى شارع الرشيد، وبالذات خلف كازينو المربعة، نشهد الأكلات المصرية والسودانية، نتلذذ بالفول والطعمية، وصلت قبالة مكتبة مدبولي، الواجهة تعج بالكتب وعلى رفوفها التي امتلأت بالعناوين، دخلتها وفي قلبي خفقة أن أتحسس أثر الأدباء الذين تركوا بصمة أرواحهم وعطرهم هنا في هذه المكتبة التي لن تشيخ.
وقريبا منها، أقصد على امتداد الشارع المزدحم كنا ننوي الذهاب الى مقهى ريش.. كانت الكراسي مرصوفة بعناية، وأنا أحدق الى الجالسين من خلل الواجهة الزجاجية، كنت بشوق أن أجلس على الكرسي الذي كان يستقله الروائي الكبير نجيب محفوظ، وهناك أسماء كثر من مرتادي هذا المقهى الجميل.
اعتدت الذهاب اليه كلما سنحت الفرصة، وفي شارع فرعي منه كنا نجلس في المقاهي المنتشرة ومنها مقهى البستان، أحيانا نجلس في الباحات الواسعة، تحت ظلال اشجار، أو قرب حيطان المقاهي.. كنت أمزح دائما مع أصدقائي وأقول لهم: (في القاهرة.. بين مقهى ومقهى هناك مقهى أيضا)، يتفننون في استثمار الرصيف بوضع الكراسي والطاولات 
المربعة والمستديرة الصغيرة، ليشكلوا بذلك نظام المقهى ويجيدون بشكل جميل طريقة النداء لطلبات الزبائن.
وأتذكر جيداً دار الأوبرا التي تبهر الجميع بمداخلها وأناقة قاعتها، صحبة أصدقاء مميزين، 
وقتها دعيت الى لقاء في إذاعة صوت العرب، وطرق سمعي من القاهرة، يوم كنا نتابع صوت أم كلثوم هادرا في حفلاتها، وعمالقة الفن يتناوبون على مايكروفوناتها، ادخل بوابتها، تحافظ على أصالتها، في هذا المبنى الكبير، اسمع خطى كل الأدباء والمفكرين والفنانين وهم يجلسون في غرف الاذاعة ليكملوا لقاء إذاعيا ينتظره الناس، عن حياتهم، مغامراتهم، مشاريعهم المستقبلية، وهنا حصرت بيدي الهواء، لأمسك اللحظة، في حين كانت المذيعة التي يشاركها المذيع الأسمر الحوار معي، نقرأ القصائد ونتحدث عن غريّن الشعر وعذوبة النصوص المكتوبة بماء شط 
العرب.