د. عبّاس آل مسافر
من أين يبدأ الكاتب وكيف له أنْ ينهي سيرة بحجم شخصيّة رافقت الضوء الأول لانطلاق فجر النبوّة وتحمّلت جزءاً كبيراً لما اعترض سبيل هذا التغيير الاجتماعيّ والسياسيّ والاقتصاديّ، وخسِر الكثيرَ من الأصدقاء والكثيرَ من الأقارب لكنه ربح نفسه، كيف يستطيع أنْ ينهض بمشروع ابتدأه بشخصيّة نبي آخر زمان أرضيّ أراد لهذا المشروع أنْ يغطّي أكبر مساحةً مقدّرة له، والسؤال الذي يلح هو كيف استطاع عزيز السيد جاسم أنْ يلاحق ظل عليّ وهو يدور في أزقة الكوفة ليلاً يبحث عن يتيم يأويه، وجائع يطعمه، مسافر انقطعت به السبلُ يقدّم له العون ويحمله إلى دار الحكومة، مع مكسور قلبٍ يخفّف عنه همه في غلواء الليل، أو يسمع أنين مفجوع يشاركه العزاء، بل كيف استطاع السيّد جاسم أن يبحث عن علي وسطَ معركة يصول ويجول ثم يرجع إلى الجرحى يداوي كلومهم، ويمسح العرقَ المتصبب من الجهاد برداء الرياسة التي لم تساوِ عنده ما يصدر من حيوان، هل استطاع الكاتب أن يتأمل عليّاً وهو يبسمل ويتلو من الكتاب العظيم، ثمَّ يهدرُ عن سيلٍ عارمٍ من الالفاظ التي تظل لها الأعناق شاخصةً والقلوب مبصرة، والعقول فاغرة، وهو يجمع بينَ ما آلت إليه الأممُ السابقة وما ينتظرها قادماً، هل تمكن السيّد المؤلف أنْ يتابع خطوات هذا الرجل وهو يحث السير لإصلاح ذات بين أو يزور مريضًا أو يسير في الاسواق محذرا أهل الصنع أن يطففوا بالميزان أو يدشنوا سلعهم أمام المارة، كيف رأى المؤلف هذه الشخصيّة وهو يحكم بين الناس عندما تحين ساعة القضاء وإحالة الخصوم له، هل رأه كيف يوفق بين الناس ويكون مع المظلوم ولو لم يكن ذا قرابة ونسب، وضد الظالم ولو كان أبنَ أبيه أو روحه التي في صدره.
أعتقد أنَّ كتاب «علي بن أبي طالب سلطة الحق» هو الجزء المكمل لكتاب «مُحمّد الحقيقة العظمى» لمؤلفهما المفكّر، فشخصيّة الإمام علي «عليه السلام» هي الشخصيّة التي كانت ملاصقة للنبوّة في واقعها وفي صعابها وحربها وسلمها وحلّها وترحالها، فكأنّما المؤلف احتاج إلى جزء ثانٍ لإكمال السيرة المحمّديّة العطرة بما يناسبها من مكانة وسمو وعلو ورفعة وشأن ملازم. والكتابة عن هاتين الشخصيتين في ظرف صعب قد لا تكون سهلة ومريحة، وتشبه أي الكتابةـ كالمسير على السيرك، لابدّ أنْ تكون كلُّ كلمةٍ في مكانها الصحيح، ولا تفسّر أو تؤول بمعنى آخر قد تكون السلطة آنذاك لا تحبّذه، والكتابة السيريّة وكما هو معروف تكون أحياناً سرداً لحياة المكتوب عنهم ومواقفهم وهمومهم وآرائهم ونضالهم، لكنََّ الكتابة عن شخصيّة أنفردت بكلِّ شيء وتركت كل شيء وراءها سوى مخافة الله وطاعة أمره صعبة ومهمة عسيرة جداً، لا سيما عندما يكون الكاتبُ خارج المؤسسة الدينيّة أو خارج الإطار الدينيّ الذي تنبثق منه تلك الشخصيّة وتمثل بيئتها الحقيقيّة.
هل كان عزيز السيد جاسم متجرداً من كلِّ شيء عندما كتبَ «علي بن أبي طالب سلطة الحق»، هل كان فعلاً يريد الكتابة عن رجلٍ قيل عنه بأنّه «ميزان الإيمان» وإنّه مقياس للمؤمن الحقيقيّ، وهو يعرف جيدًا قد هلكَ به رجلان، أحدهما غالى فيه وآخر كفر به، هل تمكنَ الكاتب من خلع معطف النسب عنه بوصفه منحدراً من أسرة المكتوب عنه ويحمل علامته معه، أي أن المكتوب عنه وهو علي بن أبي طالب ـ هو الجد الأعلى لهذه الأسرة التي بلغت ملايين الأفراد موزعين بين بقاع الأرض، أقول هل كان لهذه الأرومة تأثيرٌ في نفس الكاتب فمال إلى تغليب كفة الآراء التي ترى بأنّه شخصيّة استثنائيّة ولم تتكرر، ودحض كل الأقوال التي قيلت من قبل وجعلها خلفه.
قد لا تكفي قراءة واحدة أو عابرة لهذا الكتاب، بل يحتاج إلى قراءة وقراءة فاحصة نتوقف فيها عندَ أهم المحطات التي مثلت انعطافات للأمة الإسلاميّة، للمواقف التي أشار إليها المؤلف وتوقف أمامها يتأملها ثم يحلّلها بواسطة مشرط الناقد المعاصر الملم والمتمكن من أدواته المعرفيّة، ويضع تلك المواقف والأحداث التاريخيّة تحت مجهر النقد ليرى ما لا يراه غيرهُ، ثمّ يربط بين تلك الأحداث ليتكون عندهُ أخيراً نسق ثقافي لمجتمع في طور التحول من البداوة إلى الحضارة والمدنيّة.
لقد استطاع كاتب مثل عزيز السيّد جاسم وهو القادم من الدياليكتيك والمنغمس في الماركسيّة والداخل في التنظير الفكريّ للنقابات العماليّة والخارج من الصراعات الأيديولوجيّة من أنْ يكتبَ عن بطل ورمز إسلاميّ بمهنية واحترافيّة عاليتين قد تفوق كتابات الآخرين المتقوقعين داخل بنية كتابية ونمط واحد، الانفراد في الكتابة عن الإمام علي بن ابي طالب «عليه السلام» لايعني السبق في موضوع بكر، بل تعني التعمق في هذه الشخصيّة والنظر إليها بوصفه إنساناً تفجرت فيه طاقات خلّاقة استثمرها في الخير، لا بوصفه قريباً من النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وصهره، أو ابن شيخ البطحاء أبي طالب فقط، إنّما الكتابة عن هذا الرجل العظيم تعني التنقيب عن تاريخ أمة كاملة وكيف استطاع هذا الإنسان ان يبتني له تاريخاً اعتماداً على إمكانياته الذاتية والمؤهلات الطبيعيّة إضافة إلى العناية الإلهيّة
والتوفيق.
إنّ الكتابة عن علي تعني الكتابة عن التجربة السياسيّة التي واجهتها الأمة في حياة النبيّ وبعده، عن التغيير الصعب وعن ترويض النفس أمام مغريات السلطة، وتعني أيضاً الكتابة عن الانفتاح على الآخر والمقاربات الثقافيّة مع تجارب سلطويّة أخرى لأمم متقاربة زمنياً او معاصرة، وتعني العلاقة بين القائد وبين الجماهير وفق الاختيار والإيمان وليس وفق الإجبار وفرض الإرادة قسراً بدون مراعاة للحقوق.
نستطيع القول إنَّ عزيز السيَّد جاسم عاشَ مع عليِّ بن أبي طالب معاناته وحروبه ومحنه كي ينتجَ سطوراً بين دفتي مؤلَف قد يبقى عالقا في الأذهانِ فترةً ليست بالقليلة، وقد ينتج قراءة جديدة لشخصيّة عظيمة تركت بصمتها
على الإنسان.