عفاف مطر
قبل عدة سنوات، في إحدى الدول العربية الجميلة وكانت المرة الأولى التي أزورها، وصلت ظهراً الى أحد الفنادق الكبيرة، تلك التي يطلقون عليها (Five Stars) ليس للإقامة فيها بالطبع، ولكنْ لأسأل عن موظف الرسبشن، أحد أصدقائي كان قد زار هذه الدولة قبلي، وأوصاني بالذهاب إليه في مكان عمله، ليؤمن لي فندقاً متوسطاً يتناسب وإمكانياتي المادية فأنا لم أكن قادمة للسياحة بل للعمل، لكني حين وصلت وسألت عنه، أخبروني أنه أخذ إجازة طارئة وغادر العمل، ولن يعود قبل اسبوع، ولأني لا أعرف أحداً في هذا البلد، ارتأيت أنْ أتصل به لعلّه دبَّرَ لي فندقاً وكل ما علي هو أنْ أتوجه الى ذلك الفندق، فاتصلت به من الرسبشن، لأتفاجأ أنه لم يدبر لي ولا حتى غرفة في أي مكان، فغضبت لأنه وعد صديقي العراقي بأنه سيؤمن لي مكاناً، فلماذا يعده إنْ لم يكن قادراً على الإيفاء بوعده؟ فتذكرت أننا العرب لا بأس إنْ وعدنا ولم نفِ بوعودنا أو تأخرنا بإيفائها.
المهم، شعرت بالإحراج من موظف الرسبشن الوسيم جداً، إذ اعتقد بادئ الأمر أنني زبونة وعاملني بكل احترام، لكنْ حين سمع مكالمتي مع زميله المجاز، تغير وجهه الوسيم الباسم، الى صخر جامد عابس ساخر. على الرغم من شعوري بالإحراج، قررت تجاهله والعودة الى التاكسي الذي ينتظرني عند باب الفندق الـ (Five Stars) والبحث بنفسي عن فندقٍ ما، يكفي أنْ يكون (Three Stars) وليذهب موظف الرسبشن الوسيم الى الجحيم، لكني وما أنْ تلفتُّ أنوي الخروج، حتى وجدت حامل الحقائب العامل في الفندق وقد رصَّ حقائبي في العربة مستعداً ليقودني الى غرفتي، ومعتقداً أني زبونة دسمة، ويبدو أنه كان ينتظر بقشيشاً دسماً كما اعتاد بالطبع من نزلاء الفندق، والأدهى من ذلك أنَّ سائق التاكسي الذي أوصلني الى الفندق، أعتقد الأمر ذاته، ورأيته يقف قرب حامل الحقائب التي أنزلها من دون أمرٍ مني، منتظراً أجرة طريق تليق بزبائن فندق (Five Stars)، وبين موظف الرسبشن الوسيم المتحول الذي ينتظر خروجي ليشتمني لأنني خذلت أمله في أنْ أنزل في الفندق وندماً على احترامه المبالغ لي أول وصولي قبل معرفته الحقيقة التي سمعها بأذنه عبر المكالمة التلفونيَّة المشؤومة، وبين سائق التاكسي المنتظر المتلهف لأجرته وحامل الحقائب ولعابه الذي يسيل طمعاً في البقشيش، شعرت بإحراج بالغ ومؤلم، فليلة في هذا الفندق تساوي أجرة بيت مفروش سوبر ديلوكس لمدة شهر كامل، حينها رأيت أنَّ لا مفرّ من النزول عند رغبة موظف الرسبشن وسائق التاكسي وحامل الحقائب وحجز غرفة في هذا الفندق الـ (Five Stars) نظرت الى حقائبي المرصوصة بطريقة كلاس لم أعتدها من قبل ولم تعتدها حقائبي أيضاً، وقارنت بينها وبين العربة، وأظنّ أنها لم تكن مناسبة أبداً فعلى الأغلب سعر العربة أغلى من حقائبي الثلاث مجتمعة بمحتوياتها، وكان سيزداد إحراجي لو طلبت من العامل أو السائق إنزال حقائبي وإرجاعها الى السيارة، فحسب ما بدا لي أنَّ الاثنين (حامل الحقائب وسائق التاكسي) كانا متيقنين أنني زبونة دسمة، وحقيقة لا أعرف مصدر ثقتهم هذه، لا سيّما أني حينها كنت أرتدي بيجامة رياضة مثلي مثل أغلب المسافرين، الوحيد الذي كان يعلم أني لن أنزل في الفندق هو موظف الرسبشن لأنه سمع المكالمة ورآني كيف غضبت وأغلقت السماعة في وجه صديق صديقي، درءاً للإحراج عن نفسي وعن كرامتي المهددة، أو، رغبة في إغاظة موظف الرسبشن وإعادته الى سيرته الأولى وإرغامه على احترامي كما فعل أول الأمر أي قبل المكالمة وجبراً لخاطر حامل الحقائب وسائق التاكسي، قررت النزول في هذا الفندق، موظف الرسبشن انفرجت أساريره، وأعطاني جناحاً ملكياً بسعر غرفة لأنَّ السياحة (مضروبة) مع وجبتي طعام مجانيتين، إفطار وعشاء، وناولت سائق التاكسي أكثر من الأجرة التي طلبها، وكذلك فعلت مع حامل الحقائب (خربانة خربانة) وقررت عيش دور الفتاة الثرية ليومٍ وليلة فقط وضحيت تقريباً بثلث ميزانيتي التي كان من المفترض أنْ تكفيني لستة أشهر كاملة، لكن بيني وبينكم لم أندم أبداً، فالاحترام الذي حظيت به في تلك الليلة، لم أحظ به من أقرب المقربين، ولا من أسرتي حتى.
أذكر أني طلبت مقصاً عبر التلفون، فارسلوا لي مقصاً على وسادة مخمليَّة يحملها موظف يرتدي بدلة أنيقة وببيونة ظريفة، والأدهى أنه كان وسيماً أكثر من موظف الرسبشن ونظيفاً جداً، يد عليها الوسادة المخملية وفوقها المقص ويده الثانية خلف ظهره، حين فتحت الباب ورأيته أمامي أشقر وسيماً نظيفاً أنيقاً شعرت أني الملكة اليزابيث أو الليدي ديانا، في هذه الليلة تعلمت درساً عظيماً، أننا في بلادنا العربية ننسى معنى الكرامة، نحن لا نمارس الكرامة لهذا ننساها ونتنازل كثيراً حتى أصبح التنازل غير محسوس وغير مرئي نحن نتنازل عن احترمنا في دولنا كثيراً وننسى أنَّ الاحترام يوازي الكرامة، وبهذا سقطت أجزاء كبيرة من كرامتنا إنْ لم تكن كلها أمام شرطي المرور أو مدير إحدى الدوائر أو حتى أمام ممرض في مستشفى، الكرامة مثل اللغة الانكليزية، إنْ لم تمارسها تنساها. ولهذا ومن تلك الليلة، أحرص أشد الحرص على النزول في فندق (Five Stars) كل ستة أشهر، فقط؛ حتى لا أنسى كرامتي.