علي الورديّ والتأثر الفكريّ
منصة
2021/05/04
+A
-A
د. نادية هناوي
عند الحديث بداهة عن العبقرية العلمية والتفوق الإبداعي والنبوغ الفكري في شخصية ما من الشخصيات تحضر إنجازاتها وما قدمته من عطاء وما تمتعت به من خصال، وما تحلت به من صفات وما اتسمت به من طبائع. وعندذاك نستطيع أنْ نصف الشخصية وصفاً دقيقاً عارفين مقدار تميزها لتكون بالفعل أمثولة لا ننفك نحتذي خطاها ونقتدي بمشوارها في العلم والبناء.
وإذا كان على الفيلسوف أنْ يتموضع في ما وراء الخير أو الشر. ليكون فوق وهم الحكم الأخلاقي كما يقول نيتشه، فإنَّ ذلك يعني أنَّ ليس كل من تفكر هو ملزم بالفلسفة، لأنَّ الفلسفة لا تعرف إلزاماً. وفي شخصية الدكتور علي الوردي كثيرٌ من السمات الذاتية العامة والخاصة التي تدلل على أنه لم يكن مهتماً بالفلسفة اهتماماً يجعل منه فيلسوفاً لأنه وجد فيها من اللا إلزام ما فيه قدر من التضييق، لذلك نبذ المنطق بالعموم والمنطق الأرسطي بالخصوص واجداً فيه هو الآخر حصراً وقياساً لا يناسبان الباحث الاجتماعي.
وليس في امتلاك الوردي صفة المفكر ما يقلل من شأنه مما لو كان قد امتلك صفة أنْ يكون فيلسوفاً، لأنه في كل الأحوال لم يقبل أنْ يكون بمعية اتجاه أو تمدرس يزعم فيه أنه مبتكرٌ لفلسفة ما أو متبنٍ لصورة من صورها الخاصة وإنما هو عالم اجتماع تنقل بين الآراء وهضمها ثم اختار منها ما يناسبه ولعله طور بعضها ورجح بعضها الآخر من دون تطوير. ولماذا يريد الفلسفة وهو الذي وجد أنَّ “الفلاسفة ميالون عادة إلى التعامل مع الأشياء في سياق الميتافيزيقيات التي يفترض أنْ تقع ما وراء هذا العالم الظاهراتي. يميل علماء الاجتماع من الجانب الآخر الى أنْ يفهموا الأشياء كما كانت في واقعيتها” آخذاً على السفسطائيين إسراعهم في الانتقال من الديالكتيك إلى المنطق.
وبالطبع لا تخرج رؤيته الواقعية هذه عن مرجعيات الفكر الإسلامي عند الغزالي وابن خلدون ومرجعيات التأثر بالفلسفة المثالية لعمانوئيل كانط، واجداً الغزالي قد دق آخر مسمار في تابوت الفلسفة من خلال انتقاداته الشديدة للفلاسفة. أما ابن خلدون فشبهه في إيمانه بصيرورة ديالكتيك الشيء ونقيضه بماركس.
وإذا كان الدكتور الوردي ميالاً الى الفكر لا التفلسف، فذلك لأنَّ العقل الشعبي هو مطلبه ومراده وهو على نوعين متعارضين؛ الأول يكون الإنسان مثالياً يعيش بالمثل الأخلاقية المتصورة العالية، وفي النوع الثاني يكون الإنسان واقعياً يكرس نفسه للحقائق وتفاصيل الحياة الواقعية. وبسبب هذه التضادية يجد الباحث الاجتماعي نفسه مفكراً وهو يفسر الظواهر على وفق قوانين الفكر التي هي مشتقات اجتماعية تماماً مثل أي معايير للسلوك الاجتماعي.
وبالفكر تتبع الوردي الإنسان وهو يتحدث مع الآخر في الحياة اليومية، ولاحظ أنَّ الناس يتكلمون أحياناً مع أنفسهم عندما يفكرون كما لو كانوا يتكلمون الى خصم متصور قد نسمي هذا الخصم كما يقول ميلز (الآخر التعميمي).
وصحيح أنَّ المنهج الجدلي كان حاضراً في فكر الوردي؛ لكنَّ ذلك لم يكن برغبة ذاتية ديالكتيكية تأثراً منه بهيجل أو ماركس أو في الأقل تواصلاً مع منطق ابن خلدون وجدلية فكره في تبني فلسفة التاريخ، بل من باب عدم التعمق في الفلسفة من جانب والاستغراق من جانب آخر في تسجيل ظواهر المجتمع وتاريخه الذي كان يتصاعد مهيمناً على حساب الاجتماع وعلم النفس حتى نضب الفكر المحض في كتاباته المتأخرة مقارنة بما كان عليه هذا الفكر حين كان يتماس ببعض الاهتمام مع فلسفات بعينها لاسيما في المرحلة التي تألق فيها فكر الوردي ما بين 1950 و1960.
وعلى الرغم من محاولة الوردي توكيد مخالفته لمحسن مهدي من باب أنَّ ابن خلدون لم يسر على ما سار عليه الفلاسفة قبله، محاولاً من خلال هذه المخالفة تمرير فكرة أنه لم يتأثر به كثيراً وأنَّ تأثيره فيه قليل؛ فإنه ظل يماشي محسن مهدي في منهجه الجدلي فنجح على مستوى الاجتماع لكنه فشل على مستوى الفلسفة.
وإذا كانت اهتمامات الوردي اجتماعية؛ فإنه ايضا اهتم بالفلسفة التاريخية وتأثر بالفلسفة البراغماتية بشكلٍ واضحٍ بحكم دراسته في أحد معاقلها المهمة وهي الولايات المتحدة الأميركيَّة. ومن الطبيعي أنْ يكون لوليم جميس مثلاً تأثيرات واضحة على الوردي ليس في تبني أفكاره النفعية حسب وإنما ايضاً في طريقته في مخاطبة القارئ باحثاً عن الإقناع وامتلاك أدوات هذا الإقناع.
ومعروف أنَّ وليم جيمس كان كثير الاهتمام بمسألة الإقناع من خلال استعماله ضميري الأنا والمخاطب في خطاباته، وبمثل هذا الأسلوب كان الوردي يخاطب قراءه، تأثراً بجيمس أيضا في نقمته على أفلاطون وجون لوك وفردريك هيجل وسبنسر الذين وصفهم جيمس بأنهم من طراز المفكرين المزاجيين.
وتأثرا بوليم جيمس الذي فرق في العادات المرعية بين سلوك الأشخاص الأصوليين النمطيين والأشخاص المتحررين من القيود والذين يتميزون باليسر والسهولة وابتعد عن التجريد موليا ظهره لعدد كبير من العادات الراسخة المتأصلة العزيزة على الفلاسفة المحترفين كان الوردي كذلك ينأى عن التجريد والتنميط والمنطق والمطلق والأصول والمبادئ الثابتة والتعليلات القبلية، واجداً في الغريزة والنفعية وما بينهما ركوناً يحقق السلام باستعمال الحدس والحساسية.
ولا نغالي إذا قلنا إنَّ أغلب توجهات الوردي في دراسة مجتمعنا العراقي تنطلق من رؤى وتوجهات نفعية، فيها الإقناع والبرهنة والتخصيص سمات ميزت الوردي كباحثٍ مفكرٍ وليس فيلسوفاً يبتكر الأفكار. ولعلَّ السمة البحثية تغلب أحياناً على السمة الفكرية فتجعله يوجه أفكاره باتجاه علم النفس الاجتماعي، التخصص الدقيق والحقيقي الذي برع فيه علي الوردي وليس علم الاجتماع كما يذهب الى الاعتقاد بذلك كثير من الدارسين والباحثين.
وقد طبق د. الوردي مفاهيم علم النفس الاجتماعي على الافراد في مواقفهم الاجتماعية والثقافية، مهتما بالاوضاع الاجتماعية والثقافية للسلوك، جامعا الملاحظات ومجريا التجارب واضعا في اعتباره الإطار الاجتماعي للشخصية الفردية لكي يفهم بطريقة أفضل كيف يتفاعلان في المواقف العادية. ومثلما تأثر علي الوردي بفلسفة وليم جيمس تأثر أيضا بفلسفة جون ديوي، لا سيما في دراسته للتقاليد والعادات، وأنّ الكلام عن أسبقية المجتمع للفرد معناه أنْ نغرق أنفسنا في ميتافيزيقيا لا معنى لها ولكننا إذا قلنا بوجود سابق ارتباط بين الافراد الانسانيين قبل أن يولد أي فرد إنساني معين في العالم فإننا نذكر حقيقة معروفة وهذه الارتباطات هي طرائق محدودة لتفاعل الافراد بعضهم مع بعض اي انهم يكونون تقاليدهم ومؤسساتهم الاجتماعية.
وكان تأثير ديوي واضحاً على الوردي في اهتمامه بالعقل الجماعي collective mind الذي يعني شيئا أكثر من مجرد تقاليد استدعيت إلى مستوى الشعور الواضح والقطعي، سواء أكان هذا الشعور عاطفيا أم كان عقليا والتي ناقشها ديوي تحت باب (سيكولوجية الغوغاء)
ورافق تأثر علي الوردي بالفلاسفة الامريكان تأثر مرجعي آخر بمواطنيهم من المنظرين والباحثين ذوي الطروحات الاجتماعية والنفسية. ويظل تأثر علي الوردي بابن خلدون هو الأهم حتى انطبعت أفكاره بطابع خلدوني، لا سيما ما يتعلق بفكرة أنَّ العرب غير قادرين على تأسيس الدولة وإدارتها بصورة ناجحة بلا دين، وأنَّ عجرفتهم وخشونتهم تدفعهم طبيعياً إلى عدم التوحد في دولة كبيرة لكنَّ الدين هو العامل الوحيد القادر على توحيدهم وتمكينهم من أنْ يكونوا محتلين للآخرين، على حد قوله لتخضع القبائل المتنوعة من ثم لسلطة واحدة تحت تأثير الدين، وبذلك يحققون
المعجزات.