الصيام.. قيمة سماويَّة تنقلت بين عبادة الأنبياء

منصة 2021/05/05
...

 مرتضى صلاح
شهر رمضان المبارك يحل بيننا مع معطياته العبادية والرسالية ويطالبنا بأن تستمر وتستمد فيوضاته.  فهو مدرسة متكاملة تمتنع اجسادنا وارواحنا وعمرنا ووجودنا نور الوعي وحرارة الايمان. ولا يكون الخروج منه من دون رفع مستوى التقوى ومراقبة النفس.
 
فلم يعد الصوم كما كان في الازمان البعيدة، مجرد سلوك يدفع المجتمع نحو الشلل والجمود، ولم يعد ممارسة غيبية ومواسم لزيادة المأكولات والحلويات كما يحدث في ايامنا، واجواء تفقد عناصر التقوى واليقظة والوعي والبناء الروحي والاسري، كما لم يعد وسيلة للهروب من تبعات الحياة وتكاليف المسؤولية بداعي الانعزال والتطهر في ظرف زمان محدد من السنة. قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} البقرة 183. كان الصيام احدى العبادات التي بنى عليها الاسلام فقد فرضه الله تعالى على المؤمنين، كما فرضه في الشرائع السابقة.
 ففي كتب التاريخ إن اول من صام هو آدم (ع) فقد صام الايام البيض بعد خروجه من الجنة، وهي ايام الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر.. وكذلك النبي نوح (ع)، حيث صام مئة وخمسين يوما حينما رست سفينته على الشاطئ الامين، كتعبير عن احاسيس الحمد والثناء، وقد اشتهر عن النبي موسى بن عمران (ع) انه كان يصوم اربعين يوما في كل عام.. كما إن الاناجيل تتحدث عن الصوم فتعده من العبادات المقدسة التي تطهر الانسان من الخطيئة. وقد صام السيد المسيح (ع) اربعين يوما، كما يظهر من أحد نصوص الانجيل: (ثم صعد يسوع الى البرية.. بعدما صام اربعين نهارا واربعين ليلة جاع أخيراً).. وجاء في القاموس ايضا أنه من هذه الواقعة كانت حياة الحواريين والمؤمنين مملوءة بالابتعاد عن اللذات وبالتعب في الصوم. والمسيحيون يصومون الصوم الكبير الذي كان يصومه النبي عيسى (ع). ويحدثنا القرآن الكريم عن السيدة مريم بنت عمران (ع) كيف صامت لمواجهة ردات الفعل السلبية على ولادتها المعجزة. يقول الله تعالى: {فاما ترين من البشر احدا فقولي اني نذرت للرحمن صوما فلن اكلم اليوم انسيا} مريم26. وصام النبي زكريا (ع)، صوم الصمت، من قوله تعالى: {قال رب اجعل لي آية، قال آيتك ان لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا} مريم 10. وقد نجد لدى بعض المنتسبين الى الايتين السابقين من اليهود والنصارى والصابئة نوعا من الصوم الذي يمتنعون فيه عن بعض المأكولات كاللحوم ونحوها، في بعض ايام السنة. وقد يخيل لبعض الناس ان تشبيه الصوم المكتوب علينا كما كتب على الذين من قبلنا يوحي بوحدة الصوم عندنا وعندهم.. ولكن ذلك غير ثابت لان التشبيه يكفي فيه ان يكون واردا لبيان أصل التشريع من دون الدخول في تفاصيله.. فقوله تعالى: {كتب عليكم كما كتب على الذين من قبلكم..} يختلف من أمة الى اخرى من حيث الاداء. فالصوم عبادة روحية قديمة هدفها تحقيق الرسالات السماوية على الأرض، لكنها تعرضت لضروب شتى من التشويه فتأثرت بالمتغيرات السياسية والاقتصادية وتأثرت بعض المجتمعات في فهمها للدين من خلال فقدان حلقة الاتصال بينها وبين المعبرين الحقيقيين لصوت الوحي السماوي. فكانت النتيجة أن ألصقت بالدين من جراء ذلك وغيره احكام دخيلة أبعد ما تكون عن روح التشريع السماوي، فتحول الصوم الى طقس وثني وممارسة وثنية، كما في صوم المصريين الفراعنة ايام وثنيتهم وانتقاله الى اليونان والرومان.
 ومع بزوغ الفجر الاسلامي كان لا بد من تصحيح هذه العبادة المقدسة، فوضع الاسلام لهذه العبادة روحانيتها، عبر تنظيم دورها وحدودها الزمنية وتحديد دوافعها الحياتية واهدافها الانسانية. كل ذلك على ضوء ارتباطها بالمجتمع واتصالها الفاعل بحركة الحياة. وهكذا بدأ الصوم في ظل العناية الاسلامية والتوجيه النبوي من قبل الوحي يستعيد لونه المضيء، وعطاءه المشرف ودوره الكبير ليصنع امة راقية، تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر، وتحمي مبادئ الحق والعدل والمساواة، وعلى اساس التربية الاسلامية العملية الواقعية.