كاظم الركابي.. شاعر القصيدة الدراميَّة المتماسكة

منصة 2021/05/08
...

  سعد صاحب
 
كان وجع الانتماء هو السور العالي الذي يدور حوله باطمئنان وارتباك ومهابة, وفي مقدمة هذه الاشتغالات التداعي واللوم والعتب والرفض والقبول, والبقاء على فكرة أمل التغيير وعدم التراجع, وترجمة تلك الأحاسيس بكتابات تقارب بطريقة ذكية بين الغموض والوضوح: (لولي على مسعدك بكول الذي يريحه/ ولولي لكطع النفس لولي لمن يصحه/ الليل موش ايحصد ليله ايحصد صبحه/ والحصو موش ايحصد روحه ايحصد جدحه/ اجرحني يمن عتبه الك جرح المحب فرحه).
في قصيدة مناجل كانت اللغة الشعرية مراوغة, لكون الركابي عاش الحياة قلقاً من كل حاكم, فراح يكتب بطريقة صالحة لكل الأزمان, مستخدماً أسلوب المفارقة والمشاكسة والإيماء والوخز والطرافة: (أطحن ورد خواف/ بالظلمه يذبل اشفاف/ ويعوف المايلونه الليل بالظلمه ولا ينداف/ الندى الكمره المحاجي البيض/ من تصرخ بلايه شفاف/ ولك والليل مزويه/ وكشر ليطه بكترها التاف/ وهندسها ومخالبها الليالي من ابتسامه تخاف).
الصورة الشعريَّة عند الركابي أصيلة فيها الكثير من الإدهاش والتكوين والتبئير, لا تتخطى عتبة الحداثة المنضبطة, وغالباً ما تكون درامية مؤثرة تفصح عن الاستلاب, والحلم باستعادة كل حق مضاع, والتوغل في فضاءات الروح المجروحة الملتاعة, لإنقاذها من الظلم وإطلاقها في أجواءالنور والحرية والشذى والأمل ومواسم الحصاد الجديدة: (وانته اشما تطك ضحكه شمس بالكاع/ اعشكك للبرد لجروح ما تراف/ واضيفك للصريفه الهدهداها الليل/ واورجك ع لي ما ينشاف/ بواجي الغيم شتويه/ وبواجينه عمر وارداف/ ومثل دمعي اعشكك عشك ما ينعاف).
في قصائد الشاعر رقصٌ خفيٌّ لا يشعر به إلا الإنسان اللماح, ربما هو رقصة الجراح في لحظة احتضان النزيف المتواصل, للإحساس بالفرح الغائب, وكأنَّ الراقص في هذه المذبحة إنسانٌ افريقيٌّ يحتفي بالزنوجة الثورية المتمردة, على واقعين متشابهين في تأثيرهما السلبي, الأول استعماري قبيح, والثاني سياسي يريد تذويب الروح الوطنية وإفراغها, من معناها الحقيقي الساطع: (يبو حلو الغناني يا يبه/ الماحسبت هيجي اشوفك/ رفيفك من رفيف الدف/ يخمد يخمد ارفيفك/ تخمد تخمد دفوفك/ وانته ابين اديك دفوف زنجية/ لجن مامش اصابع تنكر دفوفك).
خطوات الشاعر في خصوصيته لا تحتاج الى دليل, ومنذ بداياتها الأولى كانت حافلة بالتمحور والانزياح والمحو والاستشراف, ومن الموضوعات الأثيرة لديه التغييب والانقطاع والموت والأفول: (يل اصابع ليش ما تحوين سيفج يل اصابع/ ويا الف خرزه اعلى جفك مازحتنه/ شصفى من امازح السبحه على جفوفك/ ثلاثه اثنين ويا اكثر خرزنه الوشم اطيوفك/ او يجفك ليش ما تحوي خرزها شموكح اجفوفك).
الركابي طازج الشاعريَّة, وجديدٌ باختيار الكلمات والافكار والتعبير والرؤى, يكثر من الكتابات المثيرة للنقاش والاختلاف والاتفاق, وهذا الزاد القليل الذي قدمه للقارئ حدد أهدافه منذ البداية, وقال الذي يريد أنْ يقوله برشاقة مميزة في الشعر الشعبي العراقي: (يحزمنه رمش سعفه/ وشدات الورد تحلى اشحوت بكتارها من الوان/ وما طول الكمر معشوك كل امجان/ انه وياك فد مهره/ او يجفنه يكود فد اعنان/ نهب او يلهوه المحد/ وضعله احدود لو نيشان/ ونلكح من طلع نخلتنه كل بستان).
الشعر كائنٌ شابٌّ لا يصاب بالشيخوخة ولا يعرف الهرم والموت واليباس, والشاعر المقتدر يجمع بين الثقافة والحب واللاهوت واللامعقول, ويقاتل من أجل حرية الكتابة: (موت يل مالك اظافر/ الليل طال وبخت عنده/ اليروي عينه بشمس باجر/ الليل بين العين لا بين الجفن/ انثر كزازه ودار داير).
الركابي شاعر تراجيدي لا ينعزل عن الحياة الواقعية بشكلٍ تام, ولا يكتب عن أجواء خياليَّة لا يعرفها سوى سكان الفضاء, وكل ما يهمه إثبات الحقيقة الغائبة: (الليل حاود وردتي/ او حشم عليها الدود من كل المكابر/ وصوتينه الصوت ما يجزي الشفايف/ يا دفو البين البرد والحر نريدك وين صاير).
هذه القصيدة استعراض لقوة الشاعر في الإنشاء والتصوير والحسم والمعنى, فهي بمثابة البصمة الباقية الى زمان يطول, وهي قابلة للانتشار في كل أوان, وحين تسمعها تصغي بكل الحواس لأسلوبها المغاير, وإيقاعها المليء بالرجاء والتضرع والوعد الإلهي واليقين: (يالفراتي ولا سمعنه/ ابوجه روجك يوكف احجار الكناطر/ ولو صدك جرفك نشف والنبع عاجر/ للرمل ابقى جرف/ للطين اوشلك حياتي/ واسكي كل ورده انكطع منها وريدك).