من يصنع العقل الجمعي العراقي؟

منصة 2021/05/09
...

 نعمه العبادي
 
يكاد يطبق جميع الذين يشتغلون على رصد وتحليل سلوك وخصائص المجتمعات، أنَّ العراقيين يتفردون بخاصيَّة قد لا يشابههم فيها أحدٌ من شعوب الأرض، وحقيقتها: (انك عندما تأخذهم أفراداً، كلاً منهم على حده، فإنك تشهد أعلى مستوى من التميز الفردي في الكثير من الخصائص والصفات، خصوصاً في ما يتصل بنبل السلوك والنضوج الاجتماعي والفطنة وسرعة المبادرة ومبدئيَّة المواقف، إلا أنك تلمس تنازلاً عكسياً للنتائج والمخرجات، حالما تضيف هذا الفرد إلى فردٍ آخر، فكلما تزايد العدد قلت المخرجات وتناقصت، ورأيت العجب من التصرف والسلوك، وحاصرك الجدل العقيم، والتعويق المجهض، وأصبحت الصورة بوضعٍ لا نحسد عليه).
لا تقع هذه الإشارة في إطار جلد الذات أو المبالغة في التقييم، ومعها لا يخرج العراقيون من دائرة التميز بالمجمل إلا أنها إشكاليَّة تاريخيَّة متجددة، تعلق بها الكثير من شأن ومصير هذه الأرض وأهلها، ولولاها لكانت الأمور بشكلٍ مختلف.
تختلف دراسة الجانب المعنوي من حياة الإنسان عن جانبه المادي في أنَّ الأخير يمكن إخضاعه للمشاهدة والمراقبة الحسية الدقيقة، ويمكن ملاحظته عبر المجاهر والمكرسكوبات وأجهزة التحليل الدقيقة، وبذلك يمكن الحصول على نتائج دقيقة، بينما يختلف الأمر في البعد المعنوي، فالنتائج تبقى تقريبيَّة، والاستقراءات ناقصة، وحالة الرصد تتحدث عن المعظم أو الأغلب، إلا أنه مع ذلك يمكن الوصول الى تعميمات مقبولة ومؤيدة بحسب مناهج ونظريات البحوث النفسيَّة والاجتماعيَّة وغيرهن من مجالات العلوم الإنسانيَّة.
 
العقل الجمعي
تحاول هذه المقاربة رصد العقل الجمعي، والضمير العام، والتوجهات الرئيسة، والمعالم الثقافية والأنماط السلوكية، والإدراك الجمعي، والمسار العريض، والصورة الشاملة للعراقيين، وتتلمس مدى تأثير وحضور جملة من المصادر المهمة في حياة المجتمع، والتي لها تأثيرات متفاوتة في مجتمعات أخرى، وتلعب أدواراً لا تشابه أدوارها في العراق، الأمر الذي يفسر ويجيب عن السؤال الذي انطلق منه هذا المقال.
بعيداً عن الجدل العقيم، يشكل المسلمون الغالبية العظمى للشعب العراقي إلى جانب المكونات الدينيَّة المحترمة الأخرى من مسيحيين وصابئة وأيزيديين وغيرهم.
تتفرد الممارسات الطقوسيَّة والدين الشعبي بحصة الأسد في صياغة الجانب الأهم والأكبر من سلوك المجتمع، ويظهر ذلك جلياً في ما يتعلق بمفردات السلوك المتصلة بالشأن الخاص، إذ لا يمكن الحديث عن تربية دينية معرفية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، بل هناك توجهات عامة ترسم صبغة شاملة تتخلف بشكل واضح عند النزول إلى التفاصيل.
في الجانب الاجتماعي والثقافي والمدني، تغيب الجامعة وعموم المؤسسات الاكاديمية غياباً شبه كلي عن ساحة التأثير في مسار السلوك الجمعي والحالة الثقافية العامة، فالجامعة عندنا قاصرة عن رسم معالم الزقاق الذي تتواجد فيه فضلاً عن المدى الأبعد، وهي في صورتها العامة بناية يتواجد فيها مجموعة من الدارسين لا اكثر من ذلك ولا أقل، وهو أمر اتصل بجرد الأهداف التي وضعت للجامعة عندنا، وكذلك في توجهات معظم النخبة التي قادت المؤسسات الجامعية، ومنظار الدولة للحدود التي سمح بها للجامعة في لعب أدوار خارج أسوارها، كما يلتحق بالجامعة في هذا التقييم عموم النخبة المثقفة، فهي طبقة (ارستقراطية ثقافياً)، تعيش توجهاتها ووعيها في أطرها الخاصة، بل في حدود السلوك الفردي وإلا في النظرة العامة لها أمراضها وعللها العظيمة التي قد تفوق علل وامراض العامة، والمهم ان هذه الطبقة (بمختلف توجهاتها الثقافية) أفراداً وجماعات لم تسهم في صياغة السلوك الجمعي او الحالة الثقافية او ترسيم حدود أنماط العيش والتعامل، وظلت مراوحة في حيز جغرافي ضيق.
يتأخر الفن مراتب عن المرجعيات والنخب في مكانته من التأثير في السلوك العراقي العام، فهو لا يكاد يبين لأنه في الحقيقة وبدون قسوة في الحكم لا يكاد يبين وجوداً، فنحن غير مدينين للمسرح ولا للتلفزيون ولا للسينما ولا للرسم او النحت بشيء يتعلق بصياغة توجهات المجتمع والتأثير فيه، وهو أمرٌ طبيعيٌّ يتناسب مع المستوى الذي حققه الفن في العراق منذ بواكيره الأولى وحتى لحظتنا الحاضرة، أما حضور بعض ألوان الغناء فهو أمرٌ لا يعود لخصوصية هذا الفن وجودته، بل لأنَّ الغناء العراقي وأخص بذلك الجيد منه هو تعبيرٌ ذاتيٌّ عن الألم والحزن والهواجس العراقية عبر موهبة شاء الله أنْ يرزقها لمعظم العراقيين.
 
توجهات عشائريَّة
تضرب الأعراف والتوجهات العشائرية والقبلية بجذورها العميقة في معظم مفاصل المجتمع العراقي، ولا تزال تقطع الطريق على أي مدنية تريد الاستحواذ على الجمهور، ومع أنَّ الأمر في مناطق غرب وشمال العراق أقل وطأة، إلا أنَّ الطقس العشائري حاضرٌ بقوة في كل الأروقة العراقيَّة، ولا يعود ذلك الى قوة العشيرة والقبيلة لجهة نوع المنتج الاخلاقي والسلوكي الذي تنتجه او لجهة كاريزما الشخصيات التي تقودها، بل يرتبط ذلك بمركب معقد، أحد أطرافه طبيعة التكوين الاجتماعي والتاريخي العراقي من جهة، وسعة الأدوار التي تمددت لها العشيرة.
يحوي العراق على مختلف مراحله التاريخية عدداً كبيراً من المهتمين بالسياسة وخصوصاً الجانب المتعلق بمعارضة الحاكم والتمرد على سلطته من دون أنْ يكون هناك جهدٌ تأصيليٌّ لمنتج واضح المعالم وناضج الشكل والمضمون في مجال الفكر السياسي والنظرية السياسيَّة، بل وحتى في منهجة الممارسة السياسيَّة، وقد قلت ذلك في مرات سابقة، ان جميع القوى التي انخرطت في صناعة المشهد السياسي العراقي انشغلت في سؤال من يحكم دون البحث في سؤال كيف نحكم، ولم تنتج المؤسسة الاكاديمية المعنية بالسياسة أية افكار مهمة وذات صبغة وطنية في ادبيات الدولة والحكم، 
تحضر البيئة الاعلامية بوصفها فضاءً عاماً يتيح تداول الاخبار والحوادث واليوميات، بحيث تغذي الجمهور بموقف تفصيلي بغض النظر عن الدقة والتوجهات والادلجة إلا ان المؤسسات الاعلامية بكل مستوياتها لا مكانة لها في التربية الجماعية بالشكل المؤثر والفاعل، وهي اقرب الى اللاعب المحفز منه الى العامل الاصيل في التوجهات المهمة.
تعيدنا هذه السردية الى السؤال ذاته (من يصنع العراقيين؟)، وهو أمرٌ يعقد مهمة الإجابة بشكل كبير، فهل يعقل أنَّ هناك تربية ذاتية متعددة بعدد العراقيين، فكل له دينه وثقافته وموقفه الاجتماعي والسياسي، أم اننا أمام عوامل غير معهودة ومكشوفة في ادبيات تحليل السلوك الاجتماعي، ام اننا أمام تداخل متمازج بين انزياحات غير منظمة بين هذه الجهات لانتاج صور تأثير مختلفة مما يجعل الاستدلال على مصادر التاثير اكثر صعوبة؟