متخصصون ينصحون بقراءة مهدئة للأعصاب

منصة 2021/05/17
...

 نهى الصراف
في الوقت الذي ينصح فيه خبراء النفس البشرية بالتوجه لقراءة روايات كلاسيكيَّة معينة، بوصفها إحدى وسائل تقويم الانفعالات وتشذيب حدتها للتعامل مع المتغيرات التي يعاني منها عالمنا اليوم، خاصة ما يتعلق منها بالعزلة، فإنهم قد يكونون محقين، شرط أن نحسن اختيار الكتب حتى تلك التي سبق لنا قراءتها.
 
في بريطانيا مثلاً، ارتفعت مبيعات روايات الكاتبة جين أوستن بنسبة 20 % خلال عام وباء كورونا، ذلك أنَّ الروايات التي تدور في محيط رومانسي وإلى حدٍ ما ينتمي بعض شخصياتها إلى طبقة اجتماعية رفيعة المستوى، لم تفتقر إلى حبكة التحدي ومحاولة تجاوز صعوبات الواقع، وهو سلوكٌ تبنته بطلاتها خاصة من كانت تعاني منهن من ظروف مادية وضغوطات نفسيَّة كبيرة، في بيئة اجتماعيَّة مقيدة نوعاً ما.
وحتى إذا اعتمدنا كتب أوستن من أجل القراءة للمتعة بوصفها توصيفاً معتدلاً لأحداث الحياة اليوميَّة، فإنها قد تقوم بهذه المهمَّة على أفضل ما يكون في وقتنا الراهن، أضف إلى ذلك، لا تخلو قصصها من تمثيلٍ واضحٍ لنمط الحياة على الطراز القديم وهو ما يجتذب إليه العديد من القراء الذين يؤسرهم الحنين إلى الماضي بكل ما فيه من تقاليد وطقوسٍ محببة، في الوقت الذي تعدّ فيه كتاباتها عابرة لزمن تدوينها، حيث إنَّها تصلح لكل الأزمنة التي مرّت عليها حتى الآن، على الرغم من مضي وقتٍ طويلٍ على نشر رواياتها الأخيرة بعد وفاتها العام 1817.
يبدو أنَّ الكتب التي لا تموت بموت أصحابها هي الأكثر ملاءمة لوقتنا العصيب هذا. هذا ما تفعله، مثلاً، رواية (الجوع) للنرويجي كنوت هامسون، على الرغم من مرور أكثر من مئة عام على كتابتها، لكنَّ أحداثها ومعاناة صاحبها ما زالت ماثلة أمامنا في سيرة ذاتية لشخص اختار أنْ يعيش حياة الكتابة، بكل ما تنطوي عليه من خيارات هي أشبه بأغلال تحكم طوقها جيداً على جسد مصيره الإنساني.
لكنْ على النقيض تماماً من روايات أوستن فإنَّ رواية مثل (الجوع) قد لا تحقق هدف الاختباء عن عالمنا الواقعي بقراءة مهدئة للأعصاب، بل تجعلنا في مواجهة مباشرة مع الواقع بكل نصوله الحادة. إذ إنَّها تصف يوميات حياة الكاتب الشخصية التي تتسم بالفقر والحاجة المستمرة لأبسط مقومات الاستمرار في العيش اليومي في أجواء مشحونة بالتوتر والفشل والإحباط المتواصل، وتروي مغامرات كاتب في مستهل حياته كان مؤمناً بقدرته الإبداعيَّة في الكتابة لهذا فهو يفوت الفرصة تلو الأخرى لاحتراف أي مهنة بديلة بقصد أو بغير قصد؛ «الله وحده يعلم إذا كانت جهودي في البحث عن عمل ستثمر في يوم من الأيام ولو قليلاً!».
كان إحباطه ذاك قد قاده إلى حياة الجوع والتشرد بمعناها الحرفي مع محاولات يائسة للحفاظ على ملبس ومظهر يتلاءم مع صورته عن نفسه ورغبته في أنْ يرى الاحترام في عيون الآخرين، حتى لو كان هذا على حساب صحته وجسده المتعب الذي كان يأكله الجوع ورطوبة النزل الحقير الذي بالكاد يستطيع دفع أجرته.
كان خياله غنياً بالآمال لكنَّ واقعه رث ومهترئ أشبه بقميصه الداخلي الذي فترت حياكته بفعل الاستخدام المستمر والجو البارد؛ «أكان هذا من العدل في شيء؟ أكان هذا في نظام الحياة ومقاييسها؟ لقد اشتغلت ليل نهار كالحصان، ودرست حتى سقطت عيناي من جمجمتي، وجعت حتى طار عقلي من رأسي، فيا للشيطان ما استفدت من كل ذلك؟».
تدخل رواية كنوت هامسون ضمن نطاق الرواية النفسية التي تشتغل على المشاعر والدوافع والصراع المستمر بين الرغبات الحقيقيَّة للنفس الداخليَّة وبين الصورة الخارجيَّة للشخصيَّة، كما تظهر بصرامتها وادعائها الترفع أمام صاحب المجلة الذي ينشر موضوعاته لقاء أجور مجزية تلبي بعض رغبات النفس الداخلية.
يأخذه الجوع في مرحلة متقدمة إلى الهلوسات فيبدو وهو يتجول في الشارع كمن أصابته لوثة عقلية، يصر على مواصلة الكتابة بشروطه رغم عدم جدواها ويأخذنا بين السطور إلى أقصى مديات المعاناة النفسيَّة والجسديَّة، حتى تطرأ فرصة جديدة للعيش، يملأ معدته وينام ملء جفنيه فيتنفس القارئ الصعداء وعندما ينتهي المبلغ المالي الذي يتحصله بشق الأنفس، يعود أدراجه للشارع والجوع والهذيان حيث يسحبنا بعد ذلك إلى نقطة البداية.
القراءة ليست اختياراً، إنها مصادفة سعيدة أو مزعجة تضعنا في حياة أناس آخرين عجنتهم الأحداث بحلوها ومرها، فإذا كان المرّ كثيراً في حياتنا الواقعية فعلينا أنْ نحسن اختيار المصادفة التي تناسبنا.
الفارق بين قراءة روايات جين أوستن ورواية الجوع لهامسون، أنَّ الأولى تمنح القارئ فسحة من المتعة وفرصة للهروب من الواقع المزعج، لكن (الجوع) لا تقود سوى لمزيدٍ من التوتر والقلق؛ ذلك أنَّ بطلها يستمر في معاناته ولا يبرأ من ضغوطات الحياة حتى مع اكتمال السطر الأخير من الرواية.