ميادة سفر
سأحتفي بالصباح هذا اليوم، أرتب كلماتي بما يليق بها، ثمانية عشر عاماً مرَّتْ على انطلاقتها وهي تثبت وجودها بجدارة، كواحدة من أهم الصحف العربيَّة، فكان لها من اسمها كل النصيب، وهي تفتتح نهارات العراقيين والعرب بأخبارها وأعمدتها وزواياها وكتابها المميزين، تفرد لهم صفحاتها بحرية ومهنية، لينثروا عبرها كلماتهم في شتى الشؤون السياسيَّة والاقتصاديَّة والثقافيَّة والاجتماعيَّة والفنيَّة وغيرها من موضوعات تهم القارئ وتشد انتباهه، وتلامس أوجاعه، وتحيي آماله بمستقبل يرجوه جميلاً.
ولأنَّ تاريخ البلاد مرتبطٌ بصحافتها، كانت ولادة الصباح قبل ثمانية عشر عاماً تزامناً مع مرحلة تاريخيَّة جديدة من تاريخ العراق هذا البلد العريق المتجذر في الحضارة والفكر، المنجب للمفكرين والعلماء، فكانت ولادتها في زمن عراقي وعربي مختلف، أرادت أنْ تكون مرآة لوطن يحلم بواقع ومستقبل أكثر حرية فكريَّة، حملت مع أخواتها هذا العبء لتنهض بالصحافة العراقية وتعلي رايتها.
تمكنت الصباح عبر أعوامها المتعاقبة من ترسيخ أسس المهنية الصحفيَّة، وكانت مدرسة بارزة في فن الخبر ومصداقيَّة المتابعات، وأيضاً في مجال تحليل الحدث، لم تبخل على القارئ برأي أو موقف أو خبر، فكانت صورة صادقة عن الواقع تنقله بكل تفاصيله وتفصيلاته، تفرد صفحاتها لأهم الأحداث وأكثرها جدلاً، يحدوها همٌ واحدٌ وحيدٌ هو أنْ تقدمَ لقارئها الحقيقة التي لا تشوبها شائبة، ولا تلوثها محسوبيات من هنا وهناك، كما تابعت الشأن الدولي والعربي بحيثياته كافة، وتفوقت برؤيتها واتساع نظرتها للأحداث والمواقف والرؤى.
لم تكن جريدة الصباح صحيفة للعراقيين فقط، بل كانت لكل العرب، فهي واحدة من كبريات الصحف العربيَّة التي جمعت أقلام الكتاب العرب وأفردت لهم مساحات واسعة، لهم ما لأبناء بلدها من مكانٍ ومكانة، يعبرون عن أفكارهم ومواقفهم حيناً، وتحليلهم للأحداث حيناً آخر، ولي معها تجربة عمرها أكثر من عامين، زادت من رصيدي فخراً، وأضافت لي خبرات أعتز بها، حين أفسحت لي المجال لأكتب ما يعتريني من أفكار أبث من خلالها هموماً تلامس واقعنا العربي، وتحاكي وجود الإنسان أينما كان، عبر الصباح حاولت أنْ ألقي الضوء على بعض المشكلات والشجون التي تمسنا كبشر، وتقلق راحة وجودنا، راجية أنْ نجد حلولاً لها يوماً ما، فكانت الصباح منبري الذي أصرخ من خلاله بلسان حال الكثيرين ممن أشاركهم الأوجاع.
جريدة الصباح مدرسة إعلاميَّة أوجدت لنفسها مكانة مرموقة كونها أكثر الصحف تمسكاً بالاستقلاليَّة وأكثر الصحف إدراكاً لقداسة المهنيَّة، في زمن عربي أصبحت فيه الاستقلاليَّة حلماً صعب المنال، وأما المهنية فغابت أو تكاد تغيب عن أكثر المنابر الإعلاميَّة في البلاد العربيَّة، حين تقلب الحق باطلا، والباطل حقاً، ويتحول الإرهابي إلى ثوري، والمدافع عن بلاده إرهابي، صحف ومحطات تلفزيونيَّة تحولت إلى محرض للقتل علناً دونما حياء، ضاربة المهنية الصحفية بعرض الحائط، رغم كل ذلك بقيت الصباح ملتزمة بميثاقها المهني الحر المستقل، لتكبر عاماً بعد آخر، مثبتة وجودها في عالم الصحافة، مستمرة في الإصدار الورقي والالكتروني برغم كل الصعوبات التي واجهت الصحف في كل البلاد، ما زالت شمعتها مضاءة وستبقى إحدى منارات الإعلام العربي.