زيارات لجروح العراق

منصة 2021/05/17
...

 علاء حميد إدريس
يزرع فينا غسان شربل حين نقرأ كتابه «زيارات لجروح العراق» الصادر عن دار رياض الريس في بيروت 2021، هاجس البحث عن الممكن والمعول عليه في العراق، ينبهنا شربل إلى أنَّ العراقيين ما زالوا يبحثون عن العراق الذي يصلح العيش فيه «لم يعثر العراقيون حتى الآن، على العراق الذي بدؤوا البحث عنه غداة إسقاط نظام صدام 2003»، خالٍ من الخوف والتوجس من الماضي والحاضر، عنوان الكتاب يعبر عن كثرة ما يعاني منه العراق، أزمات، محن، اضطراب.. الخ
 لهذا يدفعنا التنبيه الذي أطلقه شربل نحو التفكير بالتيه العراقي، والذي أخذت رقعته تتسع لتشمل المجتمع ونظامه، ومن يظن أنه ممسك بالسلطة وقدراتها. دوام جروح العراق دليلٌ على التيه وهذا ما يشهد به السياب قائلاً «ما مر عام والعراق ليس فيه جوع»، كان العراقيون يمنون أنفسهم قبل 2003 بالخلاص من كل هذه الجروح، ونيل الشفاء منها، لكنهم فقدوا بوصلة الوصول الى الخلاص، وما عاد مجدياً إلقاء اللوم على صدام وحكمه وممارساته التي خربت الدولة والمجتمع، لأنَّ التمسك به هروبٌ من متطلبات الحاضر الى الماضي الذي وقع، وليس مطلوباً سوى فهمه وتحليله لكي لا نعيده، لعلَّ العراقيين أضاعوا حس السؤال عما هم فيه من جروحٍ تستنزف قابلياتهم على اكتشاف الحل، بقاء هذه الجروح يضع حياتهم بشكل شبه دائم في حالة طوارئ لا تعرف الاستقرار، هذا اللا استقرار الذي يعيشونه يخالفون فيه معنى الحكمة التي تقول «دوام الحال من المحال»، وكأنهم وقعوا في متاهة الدوران حول حال واحدة تظهر بأشكالٍ مختلفة.
 
القوة لمنع تكرار الأزمات
إنَّ العراقيين ودورانهم على حال واحدة منعهم من أنْ يكونوا حرفة الخروج منه، بل باتوا يعيدون ذات الحال للخلاص من التي سبقتها، هذا الدوران جعل العنف شاخصاً مع كل أزمة يواجهونها، وكأنهم آمنوا بأنَّ القوة في بعدها المادي هي الخيار الوحيد لمنع تكرار أزماتهم، ولذلك تسابقوا على امتلاكها، تلازمت عندهم القوة مع العنف، والذي جعلهم يقصون من ينافسهم أو يختلف معهم سياسياً واجتماعياً، ولهذا تاريخهم السياسي غني بما جرى من إقصاء وإزاحة بين المختلفين حزبياً وسياسياً.
لفت انتباهي الأستاذ جواد علي كسار، أثناء حوارنا حول ما يكتب عن العراق وأزماته، إلى غياب الواقعيَّة السياسيَّة التي تفهم العراق ومتطلباته ولا تغفل أثر المحيط الإقليمي والدولي فيه، لأنَّ حضور هذه الواقعيَّة السياسيَّة يخفف من تأثير الايديولوجيَّة ويعظم من المصلحة، الحوارات التي أجراها شربل مع سياسيين عراقيين من العهد السابق والحالي تظهر عمق التباين الذي يسير حال العراق، فحين تطالع الحوار مع مام جلال الى هوشيار زيباري، نوري المالكي، حيدر العبادي، حامد الجبوري، عبد الغني الراوي، إبراهيم الداود، عزيز محمد، فكل شخصية تتحدث من زاوية ما مرَّتْ به من نضال سياسي، ومن تجربتها في المشاركة بالحكم، الفارق البارز هو أنَّ جزءاً من الشخصيات مارست العمل السياسي في فترة نظام البعث وشاركت بالحكم بعد تغييره، وهي تمثل الجزء الأهم في مطالعة حوارات الكتاب لأنها تمثل مدخلاً حيوياً لفهم مرحلة بعد 2003.
يضع شربل بعض المؤشرات التي تمثل منطلقاً لتحليل الأحداث والأزمات التي أخذت تضطرد بعد تغيير نظام البعث، إذ يذكر «سال الدم غزيراً بفعل خطأين فادحين ارتكبهما الفريق الذي عدَّ منتصراً والفريق الذي عدَّ مهزوماً، لا المنتصر نجح في عقلنة انتصاره ولا المهزوم نجح في ضبط خسائره»، عقلنة الانتصار وضبط الخسائر هما الإطاران اللذان يمكن أنْ نحلل من خلالهما الذي جرى من 2003 ولغاية اليوم، ولكنْ قبل أنْ نسلم بأهمية «العقلنة والضبط» يلزمنا أنْ نجد من يعترف بالأخطاء التي حصلت وأصبحت جزءاً فاعلاً في بنية النظام الذي تم إنشاؤه منذ 2005، وهذا الاعتراف يقع على من ربح وخسر، يقول شربل «كان أسلوب بعض القوى الشيعيَّة في ممارسة الانتصار أكبر من قدرة المعادلة على الاحتمال، والأمر نفسه بالنسبة إلى بعض القوى السنيَّة التي أصرَّتْ على إحياء معادلات الماضي رافضة الاعتراف بالحقائق السكانيَّة وتداخلها مع القوى الإقليميَّة»، إذ يعلل أهمية الاعتراف من أجل تحقيق العقلنة والضبط من الطرفين.
 
العراقيون: من الحيرة إلى التيه
أبدى العراقيون منذ خمسينيات القرن الماضي ردود أفعال تبدو أنها استجابات لمواجهة تكرار أزماتهم، التي ظنوا أنَّ أسبابها تقع في طبيعة تاريخهم أو في السياسة التي أدير بها الشأن العام، قبل الخمسينيات كانت أزماتهم تدور حول كسب العدالة في العيش والعمل، ولم تكن تتعلق بشكل النظام السياسي وشرعيته عند المجتمع آنذاك.
يندفع المجتمع حين يواجه أكثر من أزمة نحو اتجاهين، الأول يبحث فيه عن حلولٍ مختلفة تنشط إبداعه وخياله، والثاني العودة الى الماضي والتعلق به، ظل العراقيون بعيدين عن الاتجاهين، إذ إنَّ تكرار أزماتهم جعلهم يتقبلون ما تنتجه من انحراف في ممارسات وقواعد العمل السياسي، فعلى الرغم من تعدد الأحزاب والحركات السياسيَّة التي تأسست منذ ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي والتي سعت لحل تلك الأزمات، إلا أنها ظهرت كرد فعل لطروحات سياسيَّة وايديولوجيَّة «الماركسية، القومية، الإسلامية»، نشأت خارج العراق وتأثر بها من كوّن تلك القوى السياسيَّة، وهذا يبين أنَّ ما طرح من حلولٍ ومعالجات لتلك الأزمات، لم يخرج عن دائرة التيه الذي أصاب العراق ومجتمعه منذ تغير 1958 ولغاية الآن، إنَّ الحيرة عند العراقيين هي عدم قدرتهم على تشخيص أسباب أزماتهم، وهذا ما عزز من حالة التيه التي تعني دوران العراقيين حول حال واحدة يظنون أنها تختلف باختلاف مراحلهم السياسيَّة، لقد أثبتت مجريات الأحداث ما بعد 2003 ازدياد الحيرة والتيه عبر نمو الفوضى وغياب اليقين في ما تم بناؤه من نظام ومؤسسات، ولذلك مع بدء تكوين النظام الجديد، أخذت تنمو عوامل تفككه وتأزمه، ولنا أنْ نتساءل من سينهي حيرة وتيه العراقيين.. هل هم أنفسهم أو ينتظرون غيرهم ليخلصهم منهما؟.