قحطان جاسم جواد
لميعة عباس عمارة الابنة الكبرى لأبٍ له أربع أخوات، هو أخوهنّ الوحيد.. ووالدها كان من أمهر الصاغة في العراق.. بل لقد بلغت بعض نقوشه على الفضة والذهب حدَّ الإعجاز، كما كان من أمهر الخطاطين، حتى أنَّ أول دواوين إيليا أبي ماضي كانت عناوين قصائده بخط والدها، فقد كانا صديقين حميمين أثناء إقامته الطويلة في أميركا، وكان الوالد شاعراً مرهفاً بالعامية والفصحى، يتقن أكثر من أربع لغات قراءة وكتابة، وحديثاً طليقاً، رغم أنه لم يتخطَّ المرحلة الابتدائية في دراسته. وكان من أمتع الناس حديثاً، وكانت مدلّلته لميعة بين جميع أهل بيته، فقد احتلّت موضع الصدارة في البيت من دون منازع.
حتى في كبرها ظلت تعتز بنفسها وقالت عنها قصيدة: فرسا جموحا/ لم أعثر ولم يسهل قيادي/ بي من شموخ النخل/ والكرم المؤصل/ في بلادي/.. حين كبرت صارت شاعرة يشار إليها بالبنان. وذات يوم صعدت منصة دار المعلمين العالية لتلقي قصيدة: وبدأت تقرأ بكل كبرياء قصيدتها (عراقية)
تُدخّنين؟. لا.. أتشربين؟.. فردّد بعض الطلبة: لا!.. أترقصين؟ ويبدو أنَّ الطلاب استمرأوا اللعبة، فرددوا
جميعاً: سكتت.. ثم نظرت إليهم نظرة طويلة.. وقالت: “يوم كنت أقف على هذه المنصّة لألقي قصائدي، كنتم جميعاً لم تلدكم أمهاتكم بعد”.. وغادرت القاعة تاركة الحضور وكأنَّ على رؤوسهم الطير.
ويروي الكاتب زيد الحلي “ذات مرة جمعها السيد ياسر عرفات، مع الشاعر محمود درويش، ووجه درويش، يحمل سحراً، لا يقاوم، ودون إرادة منها، تسمّرت عيناها علي وجه درويش وفجأةً، تنبّه محمود إلى ذلك، فقال لماذا تحدقين في وجهي، فتدخل عرفات قائلاً لمحمود بضحكته المجلجلة: وهل تريدها أنْ تحدق في وجهي؟ وتكمل هي رواية هذه الحادثة قائلة: في اليوم التالي لهذا اللقاء، ناولت محمود درويش قصاصة عنونتها (إلى محمود درويش) وفيها قلت: (أزح يا حبيبي نظارتيك قليلاً لأمعن فيك النظر/ فما لون عينيك؟ هل للغروب تميلان أم لاخضرار الشجر/ أحبهما، تتعرى، النجوم بغير سحاب../ أريد القمر/ فوالله من أجل عينيك محمود/ أعشق قْصر البصر).
قرأ محمود دوريش بسرعة هذه الأبيات، فسألها بتهذيب عال: لماذا تناديني (يا حبيبي) وأنتِ لا تقصدينها؟
فأجابته: هكذا أنادي كل أولادي!. ويضيف الحلي: هناك حادثة لم يذكرها أحدٌ من قبل وقد تأكدت منها من ذوي الشأن، وهذا الأمر، هو إعجاب شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري بشعرها، خاصة (العامي) منه.. وإنه معجب، وهذا هو الشيء المثير، بصوتها لحد العشق، حتى أنه طلب منها تسجيل قصائدها على (كاسيت) وفعلت ذلك، وعن الجواهري، قالت: إنه لا يتكرر، وشاءت الصدف، أنْ ألتقي بأبي فرات، شاعرنا الكبير، فنقلت له حكاية إعجابه بشعرها وصوتها، فأيد ذلك، وقال بصوته الساحر (صوتها يحرك فيّ شاعريتي)!
لميعة عباس عمارة من مواليد 1929 ولادة منطقة الطيب ثم انتقلت مع العائلة الى العمارة. تعيش حالياً في أميركا ولها ثلاثة أولاد هم الطيار والمهندس والشاعر، فضلاً عن بنتٍ واحدة. اضطهدت بعد مقتل الزعيم عبدالكريم قاسم وفصلت من وظيفتها، انتمت الى اليسار دون تحزب لأنها تقول: لو كنت حزبيَّة لقمت بانقلاب ضد الحزب! بالرغم من أنها صابئيَّة لكنها مؤمنة بالله ومعجبة بالمسلمين والمسيحيين وطقوسهم. ولا تقبل باي حاكم غير عراقي يحكم العراق. غادرت العراق ولو بقيت فيه لقتلوها على حد تعبيرها. وتعتقد أنَّ تشويه التاريخ يبدأ في كتب التربية وفي الغناء لأنهما يلعبان دوراً في التشويه والتزوير. تدين حالة تدمير التماثيل والنصب وتقول إنَّ العراقي لديه حب الكسر والتخريب كما فعل مع تماثيل مود وفيصل الأول وغيرهما.
معظم أشعارها تحولت الى أغنيات منها “لو أنبأني العراف” التي نجح في أدائها الفنان الراحل عارف محسن وفشل في تأديتها سعدون جابر لعدم ملاءمة صوته للقصائد. كذلك غنى لها الدكتور فاضل عواد قصيدة (اشتاك لك يانهر يالبردك الجنة صفصاف شعري هدل وبمايك تحنة).
وهي شاعرة بالفصحى والعامية ورسامة وخياطة ماهرة. ترجمت قصائدها الى غير لغة عالمية ولعدة مرات. وحبها لبغداد لا يدانيه حبٌ آخر وهي التي تقول عنها: بغداد تاهت انا حيرى/ من بعد صدرك لم اجد صدراً/ حتى باحلامي أدور/ لا أجد فيك بيتاً لأهلي ولا قبر/ لا أمشي.. لا تاريخ لي/ فأنا ممحوة من عالمي قسراً/ لا جارة لي وكل البيوت خلت/ من مات مقتولاً ومن فرا/ والشعر. حتى الشعر ينكرني/ إني أجاهد لا أرى شعراً/ يا بغداد يا أمي/ أزيلي دمعة/ كيف الأمومة قتلت غدراً).