غفران حداد
ما زلتُ أتذكر لهفة النظرة الأولى لرؤية مشهد البحر حين بدأت الطائرة بالهبوط شيئاً فشيئاً، في سماء بيروت من عام 2015 , تتلألأ المدينة بأضوائها وهي تحتضن أسواقها وواجهات محالها الأنيقة، بشوارع عصرية تضم أحدث «المولات» و»بوتيكات» الأزياء الفرنسية
والعالمية.
جمال بيروت لا يقف عند حجارة المكان الذي يتكلم عن تاريخه ولا يقف عند تناغم الطبيعة بين رمال مياه الشواطئ أو بين جبال مدنها الشمالية، أو حتى عند تلك الهندسة العمرانية التي تحتضن المنازل الحديثة والشقق والفلل في قرى ريفية بين ضفتيها رعاة أغنام وماعز وجبال تفور أرضها بأشجار الصنوبر الشاهقة والزيتون والبلوط، وضيافة أهلها للسائح بفنجان قهوة تفوحُ منه رائحة الهيل
الأخضر.
بل جمال بيروت يمتد كونها أكثر مدن الشرق الأوسط تنوعاً بجمالها الديني والمذهبي وعشرات الطوائف من الدروز، السنّة، الشيعة، الروم الأرثوذكس وغيرها من الطوائف تعيش في حيٍ وزقاقٍ واحدٍ بهدوءٍ وسلامٍ، يتعايش الجميع على مبدأ احترام خصوصيات وحريات الآخر في العيش، هذا السلام ونبذ الطائفية جاء بعد معاناة من رحم حرب أهلية فتكت بهم ومزقت نسيجهم الاجتماعي.
اليوم وبعد انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب للعام المنصرم، تغيّرت معالم وجه بيروت وسكانها لقد دمروا قلبها النابض بالحياة، فلو دخلت في حربٍ مع العدو لما خرجت منها مدمرة كما حصل لها في دقائق معدودة من الانفجار، لقد خرجت مدنٌ كاملة بخراب مبانيها، وسيارة بيتي كانت من ضمن مئات السيارات التي مزقتها قطع كبيرة من الزجاج المتناثر، دقائق معدودة من انفجار صنّف الرابع عالمياً من حيث خراب المدن كانت حصيلته دمار جميع المطاعم والمباني والعمارات السكنية في الأحياء والمدن القريبة من مرفأ بيروت، وخلّف آلاف الجرحى ومئات
القتلى.
بيروت التي كانت تلقّب بـ»باريس الشرق» و»أمُّ الدنيا»، و»المدينة التي لا تنام»، بقيت جميلة في ذاكرة سيّاحها فقط، لكن من يعيش فيها بشكل دائم يدرك الفرق الكبير بين الأمس واليوم خصوصاً بعد تفشّي فيروس كورونا فيها، إذ إنَّ الإقفال العام وتناوب ساعات الحظر الشامل والجزئي، وما تلته من ثورة أكتوبر، وتحليق سعر صرف الدولار، وارتفاع أسعار المواد الغذائية وحليب الأطفال والدواء، قد نهش من جسد لبنان الكثير
والكثير.
بيروت التي كانت قِبلة الحياة أصبحت اليوم قِبلة الموت على أبواب المستشفيات، فالفقراء وحتى ممن هم يحسبون على فئة الطبقة المتوسطة لا يملكون ثمن سرير للرقود في المستشفى.
بيروت قِبلة عشّاق الفكر والمعرفة أصبح اليوم بعض كتّابها وأدبائها يبيعون مكتباتهم الغنية بآلاف العناوين لكي يوفروا لقمة عيش لأسرهم قد تكفيهم لأسابيع معدودة.
ورغم مساعدة العراق بأطنانٍ من الطحين والأدوية وحتى النفط الخام ووقوف الكثير من الدول الخليجية إلى جانب بيروت لكن جراح شعبها لا تزال مفتوحة.
في ظل عدم تشكيل حكومة تنقذ البلد، وتزايد عدد ساعات انقطاع الكهرباء وخطط تقنينها التي فتكت بيوميات مواطنيها ومرضاها، وبعد كل الخراب وتحليق سعر صرف الدولار لكنَّ الدولة ترمي وتتبادل التهم في ما بينها دون الشعور بأي وجع، ترى ولماذا تشعر الدولة بالوجع؟
فهل تنقطع الكهرباء عن قصر الرئيس؟
هل ينام على نسيم الهواء الطبيعي؟
أو يتصبب ماء التعرق من جبينه؟
وهل يحدق (بَي الكِل) في ساعة الحائط ويتساءل ترى متى ستأتي الكهرباء الوطنية؟
لماذا تشعر الدولة بالوجع؟
وهل تفكر السيدة الأولى بهموم لقمة العيش؟
أو إنها تقف بالطابور في سوبر ماركت لعلَّ وعسى تحصل على بضاعة بسعرٍ مدعوم؟
أو أنَّ بنات فخامة الرئيس قد جاءهن العيد أو أية مناسبة فرح عائلية من دون أنْ يشترين ثياباً جديدة؟
لا يا سادة لا أحد منهم يشعر بالوجع.
بيروت اليوم تئن من الفقر والجوع وتطوقها المصالح السياسيَّة، إنهم يتقاسمون عضمها وجلدها على مائدة مصالحهم الخاصة وطموحاتهم السياسية من دون تنازل لأجل هذا الشعب المنكوب.
فمن ينقذ باريس الشرق وعاصمة
الشمس؟
من يعيد إليها حياتها؟
ومن يطعمها قبُلة حياة لتولد من جديد؟.