القصة الومضة.. بين التكثيف ولغة البوح

منصة 2021/05/23
...

 وجدان عبدالعزيز
 
أتحفني الكاتب عبدالكريم السامر بثلاثة من كتبه المنتجة حديثاً، وقد شكلت لي قراءتها متعة مثمرة، أحالتني الى أنَّ الكاتب السامر كغيره من كتاب المعاصرة، يأبى أنْ يبقى في محطة أدبية واحدة، إنما يحلو له الترحال والسفر والتنقل بين محطات أدبيَّة متعددة، حيث تنقل بين الشعر والترجمة والسرد، لكني وقفت عند سردياته، لا سيما مجموعته (زنزانة) الحاملة ما يسمى بقصة
الومضة.
يقول مجدي شلبي: (القصة الومضة هي بالفعل أدب حكمة وليست أدب حكي، هي عبارة عن حكمة ترتدي ثوب القص، فالقص بالنسبة للومضة هنا مجرد رداء (حكمة ترتدي ثوب القص) ولأنَّ أصل القصة الومضة هو أدب التوقيعات، وليس أدب القص، فهي تستمد عناصرها منه: التكثيف والمفارقة والإيحاء والخاتمة المباغتة المدهشة، فالحكمة الومضة إذا ألبسناها رداء القص أضحت قصة ومضة، ولا ينبغي أنْ نطالب جسد النص بأنْ يلتزم بمواصفات ما يرتديه من ثوب).
وأرى أنَّ الكاتب السامر حرص أنْ يجمع بين معنى (خير الكلام ما قلّ ودلّ)، وبين السرد، ليكون في نقطة ليست بعيدة عن مهنته الأساسيَّة الأدب وخاصة القص، فظل وفيّاً للسرد، وحكيماً في طرح المعنى المعمق بعناصر القصة الومضة المتمثلة بالتكثيف، والتركيز، والإيحاء والتلميح، والمفارقة، والخاتمة المدهشة، فكان الوليد مجموعة (الزنزانة)، ومن ثريا النص، فالزنزانة غرفة في سجن، أو قسم شرطة يُحتجز فيها سجين لقضاء مدة عقوبته، وجاء في معجم المعاني الجامع أنها حجرةٌ في السِّجن ضيقة يحبس فيها السجين على انفراد، ومن معنى العنونة بدأ الكاتب مسيرته السرديَّة بصدق، حيث تعامل مع العناوين الفرعية بكل دقة وإخلاص، كي يكون في صلب الموضوعة، لا يداهن ولا يراوغ، بل وفيٌّ للمعنى، وفي الوقت ذاته وفيٌّ للسرد والحكي، وبهذا ثبت بما لايساورنا الشك أنه في عوالم السرد يتحرك، فطوال ثمانين قصة ومضة بدأها من قصة (رسم) وانتهى بقصة (زنزانة)، وكما نوهت بقي في عوالم السرد وبعناصر القصة الومضة المذكورة أعلاه، ما أعطانا تحفة فنيَّة متماسكة في التكنيك والبناء، وفي عناق مع المعنى الحكمة، أي (خير الكلام ما قلّ ودلّ)، ولكن كوني متلقياً، لا أنكر دور تلك اللوحات التي
أضاءت جوانب مهمَّة من فضاءات المعنى، إذ كان للرسام خالد خضير الصالحي دورٌ تنويريٌ لفضاءات تلك القصص الومضة، فالرسم فن مرئي وتشكيلي يتم فيه التعبير عن الأحاسيس والأفكار والأشياء والموضوعات بوساطة الأشكال، والخطوط، والألون، فهو إحساسٌ تعبيريٌّ، أيضاً يعتمد على اختصار الكلام بخطوط ورسم للحظات توهج معينة، وقد يرتقي الى عمل فني قائم 
بذاته، ولهذا جاءت رسوم الصالحي وتخطيطاته مترافقة مع كتابات السامر هذه، ونلاحظ ونحس أنها في عناق المعنى في نهاية المطاف، وكأننا في عمل متكامل، أي لقاء فن السرد مع فن التشكيل، وهذا الأمر أضاف حسنة النجاح في عمل واحد متكامل، أو قل ان قصد الومضة عند الكاتب السامر توهجت ورسومات الصالحي في نقطة التكثيف والضربة المفاجئة، ومثلما عرفنا فن القصة الومضة، نقول عن فن الرسم، فهو فن التعبير عن الأفكار التي يحملها الإنسان، من خلال خلق صفات جمالية معينة، عن طريق لغة بصرية ثنائية الأبعاد، باستخدام مجموعة من
الأدوات.
يقول محمد علي البدوي: (سحر القصة وسيطرتها على النفس الإنسانية، إضافة إلى مقدرتها على الإمتاع والإقناع، الإمتاع: من خلال رؤاها الجمالية المختلفة، ومن خلال نزوعها التواق إلى التكامل مع الأجناس الأدبية الأخرى، والإقناع: من خلال مناقشة هموم الواقع، وطرح آمال الإنسان العادي الصغيرة)، وهذا القول ضرب لي عصفورين بحجر واحد، أي جعل لقاء السرد وفن الرسم لقاءً موضوعياً وذاتياً معاً، ففي قصة ومضة (الزنزانة)، يقول الكاتب خارج الزنزانة، ويقصد خارج الذات، يقول العالم محاصر، أي هناك عين من قبل الكاتب السامر على الذات، وعين على العالم الموضوعي، والحقيقة أنَّ الأدب يستمد أهميته من الواقع الى الإضافة، بمعنى أنَّ الكاتب يبحث في مظنات الواقع عن القيمة المضافة، وبالتالي يقدم نماذج متباينة من آليات التفكير، وتبقى الكتابة الحية الفاعلة مؤثرة، تجعلك تفكر خارج حدود عقلك، وتجعلك تتعاطف مع الناس الذين خاضوا تجارب لم تعرف عنها، تحاول التعرف عليها من خلال القراءة والتحليل.
لهذا تبقى مجموعة (زنزانة) القصة الومضة للكاتب عبدالكريم السامر، تحتاج للكثير من البحث والتنقيب، كونها جاءت على منوال التكثيف والإيحاء والنهاية المفاجئة.. والأمثلة بعضٌ من قصص المجموعة:
1ـ رسم (عندما يكتب، يرسمه القلق).
2ـ نوم (حان الهروب، قيّده النوم)
3ـ كلمات (رسم خطاه، تعثرت كلماته)
4ـ زنزانة (خارج الزنزنة، العالم محاصر)
وكما نوهت إنَّ المجموعة ضمت ثمانين قصة ومضة، وتنوعت في مضامينها.