تدهور سياسات المناخ الاميركيَّة خلال رئاسة ترامب

بانوراما 2021/05/25
...

  مارك رو  
   ترجمة: مي اسماعيل  
                                        
لو كان جون كينيدي هو سيد البيت الابيض خلال السنوات الاربع الماضية بدلا من ترامب؛ لعله كان سيعيد صياغة دعوته الشهيرة للسلاح، ليقول: «لا تسأل عما يقدمه المناخ لوطنك؛ بل ما يقدمه وطنك للمناخ»، في الحقيقة جاء بهذه العبارة الاخيرة رجل آخر من اميركا الشمالية؛ الكندي مارك كارني حاكم بنك بريطانيا السابق سنة 2020 أثناء محاضرة القاها عبر مؤسسة «بي بي سي»، وكانت دعوة كارني موجهة الى المجتمع الدولي؛ لكنها حملت اشارة موجهة للولايات المتحدة، لقد بُذل الكثير بحق تجاه تأثير مناخنا المتغير على أكثر أجزاء العالم ضعفا والمناطق النامية من العالم؛ حيث تقع الاقتصادات والشعوب الأقل قدرة على التأقلم تحت رحمة الطقس المتطرف والتيارات المتلاطمة، لكن الولايات المتحدة ليست مستثناة من كل ذلك، وكان العام الماضي (مع سنة 2016) الأكثر حرارة في تاريخ الولايات المتحدة؛ وفقا لبيانات الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي، واختبرت 22 كارثة جوية/ مناخية، فاقت خسائرها الاقتصادية المليار دولار، وكان منها موسم جفاف و13 عاصفة عاتية وسبعة أعاصير مدارية وحرائق غابات؛ خلّفت بالمجموع 262 وفاة، وكان عدد تلك الحوادث سنويا خلال العقود الاربعة الماضية سبعة فقط؛ شملت بعضا من أسوأ العواصف الكارثية في التاريخ المسجل؛ منها اعصار ساندي سنة 2012 واعصار كاترينا سنة 2005؛ الذي شرد مئات الآلاف في ولايات: لويزيانا وميسيسيبي وألاباما ممن فقدوا منازلهم، ومنذ سنة 1980 كان مجمل خسائر مثل تلك الحوادث نحو 1.875 ترليون دولار، وشهدت كاليفورنيا ستة من أسوأ حرائق الغابات سنة 2020، بينما عاشت كولورادو أسوأ موسم مسجل للحرائق المدمرة، وكشفت 
دراسة نشرت أوائل السنة الحالية للأكاديمية الوطنية للعلوم عنوانها «المخاطر المتغيرة وعبء حرائق الغابات في الولايات المتحدة» أن أكثر من خمسين مليون منزل هناك باتت اليوم ضمن مناطق تواجه خطر حرائق الغابات؛ وهو رقم يرتفع بمقدار مليون كل ثلاث سنوات. خلصت الدراسة ايضا الى انه في بعض الولايات كانت حرائق الغابات مسؤولة عن نصف انبعاثات «PM2.5»؛ وهي الجزيئات الدقيقة التي تسبب أمراض القلب والأوعية الدموية. 
 
«صب الزيت على النار»
هذه النتائج المتطرفة تدعو للانتباه؛ كما تقول راشيل كليتوس مديرة السياسات في اتحاد العلماء المعنيين: «تتأثر الولايات المتحدة بتحولات المناخ كما هو حال باقي ارجاء الأرض، وكانت سنة 2020 بلا هوادة؛ فقد واجهنا ثلاثين اعصارا واثنتي عشرة عاصفة داخل اراضينا، حتى انهينا قائمة الحروف الابجدية لنجد لها اسماءً، فاضطررنا لاستخدام الحروف الاغريقية، وعانينا الفيضانات وموجات الحرارة، وهذا ليس بالبرنامج المستقبلي المجرد البعيد؛ انه يجري هنا الآن»، وتحذر انه رغم كون الولايات المتحدة دولة غنية؛ لكن الفقراء معرضون لتغيرات المناخ اسوة بجميع فقراء العالم، قائلة: «لا يقتصر الامر على موقف الامم الغنية تجاه الفقيرة، بل أن أزمة المناخ غير منصفة للغاية، حتى داخل الدول، يعاني الفقراء والملونون في أميركا أكثر ما يكون؛ فخلال حرائق الغابات كان عمال الزراعة القليلو الدخل يعملون خارجا لجني المحاصيل، حتى عندما كان التنفس صعبا»، ولعل النتيجة الايجابية الوحيدة لمصاعب سنة 2020 كانت اقتناع أكثر الاميركان أخيرا بأن تغير المناخ أمر حقيقي؛ كما يرى «جون كويكيت» مدير سياسة المناخ العالمي بمنتدى سييرا: «كانت تأثيرات التغير المناخي من الواقعية بحيث غيرت السياسات؛ فتتابع الاعاصير والحرائق والفيضانات قهر ترامب ببساطة، إذ وظفت ادارته في السلطة أشخاصا ذوي وجهات نظر هامشية حقا؛ لكن الشعب رأى بعينيه ما كان يحدث، مهما أنكر المنكرون»، وقبل كل شيء يبدو أن الحرائقة قد كشفت حراجة الموقف بشكل فوري امام تصورات الناس؛ فخلال أيام معدودة غيرت الاقتصادات المحلية وسببت تعرية التربة وقادت لتلوث المياه، وعاشت سان فرانسيسكو أياما من ظلام حالك كالليل؛ كما يصفها كويكيت: «أعادت تجربة الحرائق والفيضانات ترتيب مفاهيم الناس وحياتهم، عموما يصح القول ان شعوب الدول النامية لا تتمتع بالمرونة تجاه التغير المناخي؛ لذا يمكن رؤية هجرات كبيرة وصراعات، لكننا لا نرى ذلك في الولايات المتحدة؛ لكن الواقع ان تأثيرات تغير المناخ غيّرت منظور الناس»، لكن كليتوس تلاحظ أنه رغم ظواهر تطرف المناخ سنة 2020 «كانت لدينا ادارة وضعت الزيت على النار». 
 
ميثان وزئبق وسخام
انسحب الرئيس السابق دونالد ترامب من اتفاقية باريس للمناخ؛ رغم تعهد الولايات المتحدة في اجتماعات  باريس بنحو 20 بالمئة من جميع تخفيضات الانبعاثات العالمية المقترحة بموجب المعاهدة، لكن تلك كانت «الجرعة» الأكبر التي قدمها، التزم الرئيس السابق بكلمته حول التغير المناخي وأربك أولئك الذين ظنوا أنه سيخفف من حدة الخطاب ويستمع إلى العلم لمصلحة أمته، تقول بيتسي سوذرلاند المديرة السابقة بمكتب العلوم والتكنولوجيا في وكالة حماية البيئة (EPA): «ظننا أنه سيتحرك تجاه تشريعات تغير المناخ؛ لكنه سعى لتعظيم أرباح داعميه وسعى ضد أي محددات يريدون التخلص منها: المياه والمواد السامة وتطهير المناطق الملوثة، حتى ان بعض قادة الصناعة الذين كان يمكن أن يستفيدوا على المدى القصير عارضوا تلك التحركات». 
قد تملأ التحركات التي قامت بها ادارة ترامب لإحباط توجهات معالجة التغير المناخي مجلدا كبيرا، وهي واسعة بحيث أن مدرسة هارفارد للحقوق حرضت على اصدار «أداة تعقب التراجع التنظيمي» التي امتدت إلى أكثر من 80 إجراء؛ وإذ يستغرق إعداد كل تشريع عادةً نحو ست سنوات؛ فان ما يقرب من 500 عام من العمل البيئي قد جرى محوها خلال أربع  سنوات، أضعف ترامب وكالة حماية البيئة التي تنظم انبعاثات الكاربون وتؤسس لسياسة التعامل بالكاربون، وشملت الإجراءات البارزة الأخرى إعطاء الضوء الأخضر لتطوير النفط والغاز في محمية القطب الشمالي للحياة البرية، وإضعاف القواعد التي تحد من ملوثات الهواء السامة من مصافي البترول، ونقض الأحكام التي اعتبرت أن تنظيم الزئبق وغيره من ملوثات الهواء الخطرة أمر «مناسب وضروري»، ورفض مقترحات تحديد سقف لانبعاثات السخام والجسيمات الدقيقة، وإلغاء حدود انبعاثات غاز الميثان أثناء إنتاج النفط والغاز ومعالجتهما، وإلغاء خطة الطاقة النظيفة التي جرى تصميمها لخفض انبعاثات الكاربون من محطات الطاقة بنسبة 32 بالمئة بحلول عام 2020 مقارنة بعام 2005، ولم يكتفِ ترامب بتخفيض القوانين المتعلقة بكفاءة السيارات فحسب؛ بل منع الولايات من تنفيذ تحركات أحادية الجانب لزيادة معدل الأميال لكل جالون (من الوقود)؛ ما فرض على ناخبيه والأميركان الآخرين دفع المزيد لقيادة السيارة.
 تمتد القائمة أبعد من التأثيرات المباشرة لتغير المناخ وانتكاسات بيئية اخرى لتشمل انهاء برامج حماية الأصناف المهددة بالانقراض ومنها الذئب الرمادي، ورفض حماية الحيتان والسلاحف في المياه الساحلية للمحيط الهادئ والسماح بصيد الدببة.  
 
أضرار كارثية
يعتبر تحطيم قانون المياه النظيفة بحد ذاته من أعمال التخريب؛ إذ رفع الحماية عن خمسين بالمئة من الأراضي الرطبة وعشرين بالمئة من الجداول واخرجها من التنمية و(محاربة) التهديدات لنوعية المياه، تقول سوذرلاند: «لا شيء الآن يوقف الشركات من القاء المعادن الملوثة في الجداول والأنهار؛ وإذا رغبت شركة تعدين باقتلاع قمة جبل والقائها في جدول فان باستطاعتها ذلك، ويمكن لشركة غاز تجريف أرض رطبة ومد انبوب ناقل عبرها». تقول كليتوس: «كانت تلك أربع سنوات ضارة؛ وكانت ادارة ترامب متهكمة جدا حول تغير المناخ بحيث لم يقتصر الأمر على إلغاء التشريعات؛ بل وضعت الناس في مواجهة اخطار تغيرات المناخ»، الحصيلة النهائية للسنوات الاربع الماضية كانت بقاء الولايات المتحدة في موقع كبار المُلوِثين، لتُنتج من انبعاثات غاز الدفيئة للشخص الواحد ما يفوق باقي الدول، صنفت وكالة الطاقة الدولية الولايات المتحدة بالمركز الثاني من حيث نسبة التلوث العالمي، إذ تُنتج نحو (5.41) غيغاطن من غاز ثنائي أوكسيد الكربون (CO2) سنويا، تتقدم عليها الصين فقط؛ التي تنتج ضعف هذا المعدل، كما أن الولايات المتحدة رابع منتج لـــ(CO2)/ شخص، بمقدار (16.56) طن، ازداد معدل انتاج الغازات وتراجع مسار خطة تقليل انتاج غاز الدفيئة بحلول سنة 2035 كثيرا؛ إذ سعى ترامب لتأخير هدف تقليل الانبعاث بنحو واحد بالمئة. بينما استمرار انتاج نحو 63 بالمئة من الطاقة الكهربائية يعتمد على الوقود الاحفوري؛ مقابل عشرين بالمئة على الطاقة النووية ونحو 18 بالمئة على مصادر الطاقة المتجددة، ويعتمد مسار التغيير من الوقود الاحفوري (خاصة الفحم) الى الطاقة المتجددة على الصراعات السياسية والمصالح الخاصة. 
رغم صعوبة التكهن بالوقت المطلوب لإزالة أضرار تراث ترامب؛ يقدم كويكيت رأيا متفائلا؛ معتقدا أن الضرر كان سياسيا الى حد ما وليس فعليا، قائلا: «هناك ضرر بالتأكيد؛ لكن يمكن تصحيحه خلال السنوات الاربع المقبلة»، وتقول سوذرلاند: «الكثير مما فعله ترامب كانت تقوده السياسة؛ وهذا يمكن دحضه مباشرة»؛ لكن الكثير منه سيتطلب وقتا أكبر لمعالجته؛ إذ يجب مرور أغلب التشريعات عبر النظام القضائي، الخبر الجيد هو تعهد ادارة بايدن بالفعل بنقض تصرفات ترامب؛ إذ تحدث بايدن عن صفقة خضراء جديدة، ويخطط لضمان تحقيق البلد لاقتصاد الطاقة النظيفة بنسبة مئة بالمئة والوصول لخفض الانبعاثات الى الصفر بحلول سنة 2050 كحدٍ أقصى، وتعهد باتخاذ اجراءات ضد شركات الوقود الاحفوري وباقي مصادر التلوث التي تخفي عمدا المعلومات عن الباحثين. 
لكن بسبب كون التغير المناخي ما زال رهنا بشكل واسع بالخطوط السياسية ضمن مجلس كونغرس منقسم؛ سيلاقي بايدن عقبات كثيرة، ولا بد أن نتذكر أن الرؤساء الديمقراطيين لم يقودوا لمسيرة دائما من الواجهة بقدر ما يوحي السرد السياسي، وبقي موقف بايدن متناقضا تجاه بعض استكشافات النفط والغاز، رغم انه وضع التغير المناخي بشكل قاطع في قلب حملته الانتخابية، تمضي كليتوس قائلة: «لا يمكننا أن نكون ساذجين تجاه الوقائع السياسية؛ ففي أي حزب كنت، واذا كنت تمثل ولاية تنتج الفحم؛ سيكون صعبا عليك التصويت لصالح سياسة تقطع انتاج الفحم؛ ما لم تقدم بدائل حقيقية قابلة للتطبيق والدعم لتحل محله، لن يكون الامر سهلا، والكونغرس ما زال منقسما؛ وسيكون على بايدن استخدام سلطاته التنظيمية والتنفيذية ليكون قادرا على الوصول للطرف الآخر».