ذكريات كوبيَّة في زمن الجائحة

منصة 2021/05/25
...

 غفران حداد 
قد يعد ضربا من الجنون أن يقرر المرء فجأة قضاء نزهة برفقة أسرته تستمر لعدة أسابيع في كوبا ، وترك بلاده المليئة بالمعالم السياحيَّة التي يسعى إليها السيّاح رغم بُعد المسافات، لكن وحده القدر من يرتب الأمور و يرمينا على شواطئ جزيرة هذا البلد دون سواه.
صباحات الناس في هافانا عاصمة كوبا جميلة، رغم الحياة الفقيرة التي يعيشونها والحياة فيها ليس مثلما يصورها الإعلام بإنه بلد منفلت أمنياً وبين أحيائه الكثير من جيوب المافيات.
البشر هناك ملونة الأجناس وخليط من ذوي الأصول الأوروبية ويشكّلون الغالبية العظمى من السكان ،والقسم الآخر منهم مِن أصحاب البشرة السوداء ،الذين تم طلبهم من إفريقيا، لأجل العمل في حقول الزراعة المتنوعة وأهمها مزارع قصب السكر ومع مرور عقودٍ من الزمن ظهر بينهم عرقٌ جديد بين السود والبيض، فلا يستغرب زوّار كوبا من رؤية شاب اسود لديه عينان زرقاوان أو عجوز بيضاء البشرة بعيون صينية و يابانية وكورية.
حيث يؤكد الكوبيون انه بعد استقلال كوبا في بداية القرن المنصرم جاء الصينيون إليها وبأعداد كبيرة جدا ، وبعد مخالطتهم ظهر مزيجاً رابعاً من الألوان والأشكال من الأجناس البشرية .
السائح في كوبا يستمتع بركوب “الحنّطور” ،وهو يتجول به بين الأزقة والأحياء الشعبية داخل مدينة هافانا القديمة ،تلفت نظرك الكثير من العمارات السكنية التي تحمل واجهاتها بطراز الإرث الإسلامي الأندلسي الجميل وتستغرب رغم بؤس الحياة الاقتصادية فيها إلا أنَّ الكوبيين شعب يعشق الحياة خاصة الرقص والغناء، وأنغام التانغو والسالسا توحدهم وترى الكثير من الأسر الكوبيَّة العاطلة عن العمل تسعى للرزق بشتى السبل وتمسك الجيتار والباندونيون ويغنون في الساحات العامة للرقص والغناء لجذب السياح ، وبعد انتهاء وصلة الاستعراض ، يقوم طفل صغير بجمع النقود في قبعة حمراء من كف كل سائح تابع عرضهم.
لم تكن رائحة الخبز والفطائر الساخنة التي تنبعث من الأفران أو اللوحات الفنية المفعمة بالموسيقى التي يفترش رساموها الطرقات تنعش حواسي، بقدر رائحة السجائر الكوبيَّة التي أخذتني إلى محالها ، رغم رفض زوجي شراء السجائر بعد معاناته معي في الإقلاع منها ،إلّا إنني أصريت على شراء كمية كبيرة منها ،وأقنعته إنني سأوزعها هدايا على أصدقائنا ومعارفنا المدخنون في لبنان.
السياحة في كوبا ترغمك على عشق جزرها الساحرة ولغتها الإسبانية وطبيعتها الخلابة والأمان الذي تشعر فيه حتى في الساعات الأخيرة من الليل ولا يمكنك توديعها من دون إعادة تناول الوجبة الشعبية في العاصمة هافانا وتدعى (كونجري) وهي مزيج من الفاصوليا الحمراء والبصل والثوم واوراق الغار إلى جانبها الأرز الأبيض ومن ثم يتم وضع المواد في فرن  لمدة لا تتجاوز الخمسة عشرة
دقيقة.
بينما براعم تذوق لساني بدأت تشتهي من جديد وجبة “ الكونجري” أفقت من ذكرياتي الكوبيَّة على صوت زوجي وهو ينبهني عن خبر أذاعهُ مذيع نشرة الأخبار المسائية عن تزايد أعداد الإصابات في  عاصمة كوبا وتضررها الكبير من الوباء ،وتعطل طرقها التجارية بعد ان كانت أحد المصادر الرئيسة للعملة الصعبة فيها.
يحزنني عدم الالتزام الكامل من الكوبيين من ارتداء الكمّامة بشكل دائم عند الخروج من المنزل، رغم تميّز فرقهم الطبية في ظل الجائحة. 
أتمنى من كل فرد فينا ان يتلقى اللقاح ضد 
كوفيد - 19، لتكون هناك مناعة مجتمعية في جميع بلدان العالم ،حتى نعود لحياتنا الطبيعية ونتذوق من جديد نكهة التحليق فوق الغيوم وفرحة الأيام من دون قيدٍ او خوف.
وحتى لا نستمع يوما للتفاصيل المُرة تجارب من فقدوا حاستي الشم والذوق، صعبٌ جداً تخيّل حياتنا في ظل فقدان الحواس، أن تستيقظ في الصباح وانت عاجزٌ على شم نسيم ورد الياسمين والجوري المزروعة في شرفة منزلك  ، او أنك لم تعد تستطيع التعرف على نكهات طعامك المفضل .
وحتى لا نعيش رحيل الأحبة بدون وداع ، اتمنى أن نلتزم لتعود الفرحة للعيون القلقة التي نراها كل يوم من وراء الكمّامات الزرقاء والبيضاء، لدينا حرية الاختيار بين طريق يجمعنا وآخر 
يفرقنا.