جماليات البلاغة!

الصفحة الاخيرة 2019/02/15
...

حسن العاني 
منذ زمن بعيد أشارت الدراسات اللغوية الى الدور الذي تضطلع به البلاغة في إغناء النص أياً كان جنسه (قصة- خاطرة- خطبة- رواية- قصيدة... الخ)، وهذا الإغناء لا يكتفي بالعنصر الجمالي بل يتعداه الى الأساليب والصياغات والدلالات، وعلى العموم فإنَّ المنجز البلاغي قاسمٌ مشتركٌ بين لغات العالم جميعها من دون استثناء، ولا أدري على وجه الدقة إنْ كان المقصود بهذه المفردة، هو (بلوغ) الناس مرتبة الرقي في إيصال ما يريدون قوله بأكثر وسائل التعبير سحراً وإمتاعاً وإثارة للإعجاب، وأغلب الظن إنَّ الأمر لا يخرج عن هذا الإطار، إذا ما نظرنا الى التأثيرات النفسية والذهنية التي تخلقها منمنمات الكناية والاستعارة والجناس والطباق... الخ.
ما أتعبنا شيء أيام الدراسة الجامعية، مثل البلاغة وتداخل تفاصيلها وتشابك معانيها، حتى هيأت لنا محاسن المصادفات أستاذاً في مقتبل العمر، لا نعرف هل كان علمه أعظم من خلقه الكريم، أم خلقه أعظم من علمه الغزير، فقد يسّر البلاغة وحببّها الى نفوسنا حتى باتت أبسط من جدول الضرب، ذلك ما فعله أستاذنا الراحل الدكتور جلال الخياط رحمه الله... وقد سمحتُ لنفسي بعد رحيله المبكر أنْ أصول وأجول وأتفلسف بلا رادعٍ، بحثاً عن الأساليب البلاغية بعيداً عن موطنها (الفصحى)، أي في مصطلحاتنا الشعبيَّة وتعابيرنا العاميَّة، ووقفتُ طويلاً عند الترميز والتلميح والإشارة الحسجة، وما لا يحصى من التعابير البلاغية الموروثة والمستحدثة.. من ذلك إنَّ أحدهم يسأل صاحبه (شلون الصحة... الأحوال) – ومثل هذا السؤال يتبادله العراقيون كثيراً – فيرد عليه (مال ها الوكت)، أي صحتي وأحوالي تناسب الظرف العام للبلد في مرحلة السؤال، وهذا جواب دبلوماسي بالتأكيد لأنه كما هو واضح يحتمل الوجهين، ولكنَّ العراقيين منذ قيام دولتهم وحتى عام (2003) يستعملونه استعمالاً أحادياً، يريدون به ان الأحوال تعبانه، ولم يذهبوا به الى المعنى الآخر، فأوضاع العراقي لو كانت جيدة لكان رده كما هو معروف (الحمد لله) أو أي تعبير بهذا المعنى.. هنا يجب أنْ نلاحظ الحس الأمني المتيقظ لدى المواطن، فعبارة (مال ها الوكت) التي تحتمل وجهين، توفر غطاءً قانونياً يجنّب الناس زعل كتاب التقارير وما يترتب على ذلك من تبعات ومساءلة قانونيَّة.. ويمكن أنْ نلاحظ هنا قضية غريبة، فالإجابة سالفة الذكر تشير من طرف خفي الى أنَّ العراق منذ قيام حكومته قبل مئة سنة وحتى اجتثاثها في 9/4/2003، وهو يعاني من تردي أحواله!!
لا أستطيع إخفاء إعجابي بالبلاغة الشعبيَّة، لأنَّ عبارة (مال ها الوكت) تعمد الى التلميح وليس التصريح، ولأنها- وهذا أمر غاية في الأهمية – تكشف عن أوضاع قائلها من غير الدخول في إشكالات أو الاقتراب من دائرة المحذور، فإذا قال أحدهم على أيامنا (مال ها الوكت) أو (مال 2003)، فمثل هذا الرد حين يصدر عن وزير أو سفير أو برلماني أو مسؤول كبير أو مدير عام هو غير الصادر عن متقاعد أو عاطل عن العمل أو أرملة، أو عائلة متعففة، وفي إجابة هذين الفريقين تكمن جماليات البلاغة الشعبية، لأنك من غير دوخة رأس ستعرف أنَّ الفريق الأول يمرُّ بأفضل حالات التخمة والشبع والبطر، أما الثاني فيمرُّ بأسوأ حالات الجوع والحاجة والفقر...