فلسفة المناهج في «أحفاد سقراط»

منصة 2021/05/30
...

  لاهاي عبد الحسين 
لعل أفضل ما يمكن أن ينصح به للطلبة والباحثين الراغبين بالاطلاع على الخلفية الفلسفية في علم المناهج أن يستعينوا بكتاب {أحفاد سقراط} للكاتب علي حسين الصادر عن دار الرافدين وذلك في المقالات الثلاثة المتتالية التي أخذت التسلسل (21، 22، 23) على التوالي.  
وكما يتضح عند القراءة يمكن تقديم المقالة (22) التي تعنى بغاستون باشلار على كارل بوبر في (21)، من حيث إنّ الأخير كان تلميذاً للأول. كان باشلار أول من فلسف باتجاه التصحيح، فالتصحيح أو ما أطلق عليه {التطهير الشاق للأخطاء}. وجاء بعده كارل بوبر الذي عبّد الطريق لما يعرف في علم الإحصاء الحديث بالفرضية الصفرية. كان في ضوء ما قدمه بوبر أنْ تطورت هذه الطريقة لتحدث انقلاباً على مستوى القيام بالبحث العلمي من خلال قياس نسبة الخطأ بهدف التحقق من مصداقية فرضية البحث وفق قدر محدد من الاحتمالية.
 
الفرضية الصفريَّة
على الضد مما كان سائداً حيث درج الباحثون على جمع ما يستطيعون من أدلة وحجج لدعم فرضية البحث فقد صار عليهم في ضوء ما اقترحه بوبر أنْ يضعوا فرضيتين، تنقض الثانية الأولى. على سبيل المثال، قد يرى باحث ما أنّ هناك علاقة بين التدخين والسرطان ولكنّه يضع ما يسمى بالفرضية الصفرية المصممة لرفض فرضية البحث. تقول الفرضية الصفرية في هذه الحالة إنَّ لا وجود لهكذا علاقة بين التدخين والسرطان. أي لا علاقة للتدخين بالسرطان وإنّ الإصابة به لا تنجم بالضرورة عن التدخين. يتحتم على الباحث بعدها أنْ يبذل جهداً ليبين ما إذا كان بالإمكان رفض الفرضية الصفرية أو قبولها. فإذا كان الدليل الذي تمّ جمعه يقر برفضها يستنتج أنّها غير صحيحة ويعود إلى فرضية البحث ليقبلها. والعكس بالعكس. منطقٌ مختلفٌ قلب البساط على كل ما كان شائعاً ومقبولاً ودفع بالبحث العلمي إلى مستويات غير مسبوقة من التنقية والتشذيب.
تناول الكتاب في المقالة التالية التي أخذت التسلسل (23) جهود عالِم الفيزياء توماس كون الذي هجر الفيزياء ليبحث في فلسفة مناهج العلم وتوجهاً بكتابه ذائع الصيت حتى يومنا هذا والذي صار قراءة لازمة لكل طلبة العلوم من إنسانية وغير إنسانية، «بنية الثورات العلمية».
يشرح علي حسين الفكرة بطريقة تميزت بالسلاسة والوضوح والتماسك الذي يفوق ما جاء في الكتاب المترجم الذي غالباً ما يجده الطلبة صعباً ومعقداً. يقول صاحب «بنية الثورات العلمية» بأسلوب علي حسين ما معناه لا يتقدم العلم بطريقة خطية تصاعديَّة تقدميَّة كما أشيع من قبل. بل إنّه يمر بانقطاعات واستدارات حلزونيَّة ويتعرض لنكسات وصراعات حتى يجد الطريق ليشق القشرة الخارجيَّة ويظهر بصيغة ما أسماه «براديغم»، أو ما يشبه النموذج الذي يمكن الاستنارة به وليس اتباعه أو نسخه. يتسم هذا النموذج بعددٍ من المسلمات الواجب احترامها. على سبيل المثال ليس من حق الباحث افتراض صراع حادٍ بين الأطراف المتفاعلة إذا ما اختار فكرة لأحد منظري المدرسة الوظيفيَّة في علم الاجتماع التي تستبعد الصراع وتقبل بقدرٍ من التفاوض لإعادة ترتيب الأشياء لتعود إلى سابق وقعها المعروف.
 
«النظرية الإيكولوجيَّة»
وهناك الكثير مما يستشهد به على صعيد العلوم الاجتماعيَّة، إذ سادت في الماضي توجهات نظريَّة اهتمت بتأثير البيئة في الإنسان ضمن ما سمي بـ«النظرية الإيكولوجيَّة» والتي أعقبتها «النظرية السكانيَّة»، فالمادية فالنفسية وصولاً إلى «البنائيَّة الوظيفيَّة». وهذه الأخيرة ولدت بالحقيقة من رحم علم البيولوجيا فكان أنْ شبّهت المجتمع البشري بالكائن العضوي حتى توفر الدليل على أنَّ هذا التشبيه لا يزيد على أنْ يكون تبسيطياً أو نعته باستخدام مفردات كون بـ «المعرفة السياحيَّة»، كما جاء في كتاب «أحفاد سقراط» وكان من أهم ما شدد عليه كون أنّ معرفة من هذا المستوى تفشل في أنْ تعدّ الطالب والباحث لأعمالٍ يمكن أنْ تحقق تقدماً علمياً يذكر. وهناك الصراع بين دعاة الفلسفة الوضعيَّة ودعاة الطبيعة الثقافيَّة للعلوم الإنسانيَّة الذي لا يزال قائماً حتى يومنا هذا. كان علي الوردي أثار ضجة في كتابه الصادر عام 1962 والمعنون، «منطق ابن خلدون في ضوء حضارته وشخصيته»، عندما انتقد المنهج الأرسطي الذي يقوم على مقدمات تقود إلى استنتاجات متوقعة. لم تؤد الضجة والاعتراضات والرفض الذي تعرض له الوردي إلا إلى تعطيل مسار الأعمال العلميَّة الساطعة في العراق، لا سيما في مجال الدراسات الاجتماعيَّة.
يذكر أنّ علماء الاجتماع الرواد ابتداءً من أوكست كومت وإيميل دوركهايم وماكس فيبر وكارل مانهايم، إلخ، اهتموا بالفصل بين الفلسفة وعلم الاجتماع بغية تأسيس علم الاجتماع كعلم جديد قائم بذاته لا يعيش بصورة طفيليَّة على فروع المعرفة الإنسانية الأخرى وفي مقدمتها الفلسفة ذات الأصول التاريخية العريقة. بيد انّ الاستغراق في بحوث ميدانية ونضوب الجديد من الطفرات النظرية المهمة أدى بالدعوة إلى العودة للفلسفة بحثاً عن العمق الفكري واستفاضة فيه. وهذا ما قاد إلى محاولة الاستفادة من أفكار ادموند هوسرل الذي استلهم لتقديم الظاهراتيَّة وهارولد كارفنكل لتقديم الطرائقيَّة. كلاهما يعدان من أحدث ما دخل علم الاجتماع إلى جانب المدارس الاجتماعية الأربعة المعروفة الأخرى كالوظيفية والصراعية والتبادلية والتفاعلية الرمزية. وقد لا يمر وقت طويل قبل أنْ تظهر مقاربات نظرية جديدة تتجاوز ما صار يعدُّ معروفاً ومفهوماً. سيمتنُّ كثيراً الطلبة والباحثون والتدريسيون الدؤوبون لمادة مقروءة بطريقة مفهومة وشيقة لهذا الكتاب وكاتبه بسبب أنّه يقدم مادة فلسفيَّة تأسيسيَّة ممتازة لمختلف العلوم، ومنها فلسفة المناهج. بالتأكيد، لا يدعي هذا الكتاب أنّه سيكون بديلاً عن العودة للمصادر الأصلية للباحثين الأكثر اهتماماً وجدية مما سيجدونه في قائمة مفصلة من المصادر المترجمة إلى اللغة العربية التي احتلت الصفحات (294 - 317)، ليشمل معظم ما صدر من تراجم لكل الفلاسفة المدروسين فيه. لا سبيل للحاق بركب العالم والدخول وإياه على خط التفاهم البيني والمتكافئ خارج الإحاطة بجهود فكريَّة وعلميَّة سابقة للوصول إلى إحداث ثورة علميَّة من النوع الذي خاض فيها وبشر بها توماس كون. جهد كبير وادخار للمعرفة ومشاركة غاية في السخاء.