قيس قاسم العجرش
لم تكن حال الفوضى في الشأن العراقي عام 1916 بأحسن من حالها عام 2003. وكلا العامين استقبلا غزواً أجنبيا غيّرا مفاهيم اجتماعية واقتصادية وسياسية متكلّسة في العراق. ولم يكن الاحتلال العثماني الممتد لأربعمئة عام وقتها يشبه باقي الاحتلالات، إنما تصوّرت أجيالٌ من العراقيين بأنَّ الوجود العثماني هو جزءٌ من قضاء الله وقدره، وأنَّه حراك اجتماعي (طبيعي) بينما هو في حقيقته كان يحمل نظاماً من الفصل العنصري والطائفي قلّت نظائره في التاريخ العراقي. وأسس لطبقيَّة ما زالت تأثيراتها ساخنة.
ويجادل البعض بأنَّ العراق نفسه لم يكن موجوداً حتى أوجده الإنكليز بحكومة فيصل الأول. وهذا خطأ معرفي قبل أنْ يكون تاريخياً. إنَّ الشعوب والمجتمعات تتواجد على ظهر الأرض حتى قبل أنْ تظهر لهم الدولة على النمط الويستفالي الذي ظهر في القرن السادس عشر الأوروبي. إننا لو صدّقنا هذه الأطروحة، نصبح كمن لا يصدق بوجود الطائرة إلّا أنْ يقودها بنفسه!.
وعلينا اليوم أنْ نفهم، ونحن نعيش (مئويَّة الدولة العراقيَّة الحديثة)، أنَّ همَّ الإنكليز وحكومة فيصل الأول لم يكترث وقتها (عام 1921) بترسيخ أوتاد (دولة)على الأرض، قدر اهتمامه بترسيخ الاستقرار وإفراغ سبطانات البنادق الأخرى من البارود والإبقاء على (تفكة) الدولة لوحدها فقط معبأة بالخراطيش. ولتسهيل هذا الأمر، كان التفكير الكولونيالي البريطاني ذو التاريخ الممتد في مواجهة بنادق العشائر، ينظر نظرة اقتصادية لأوجه المشكلة حينها.
وقتها رفع فيصل شعار (لا مشروع قبل الغرّاف)، وهو يقصد سلسلة السدود والنواظم التي أقيمت على الغرّاف ابتداءً من سدة الكوت وانتهاءً بالبدعة ونواظمها. هذا المشروع وفـّر الماء، ووسع من رقعة الأرض الزراعيَّة، وجعل الأيادي السُمر تهتم بالزراعة أكثر من اهتمامها بحمل البندقية. ثم عدنا بانتكاسة أخرى الى الإقطاع. لكنَّ الدرس نجح، وهو قابلٌ للنجاح أكثر في يومنا الحاضر.