غرائب القراءة!

الصفحة الاخيرة 2019/02/16
...

 جواد علي كسّار
سمعتُ من السيد كمال الحيدري أكثر من مرَّة، أنه سأل السيد محمد باقر الصدر؛ كم ساعة يقرأ في اليوم؟ ردّ عليه السيد الصدر، أنَّ هذا السؤال يستند إلى صياغةٍ خاطئة، والصحيح أنْ يقول: كم ساعة تمضي مع الكتابِ يومياً؟ يقول الحيدري، سألتُ السيد الصدر: ما الفرق بين الصيغتين؟ أوضح الصدر: إني ومنذ تناول شاي الصباح أكون مع الكتاب، ويكون الكتاب معي دون انقطاع، فالكتاب معي وأنا في البيت، وأنا ذاهب إلى الدرس، ومع الناس وبينهم، وأنا أتناول الطعام وأمارس بقية نشاطات حياتي. ففي كلّ هذه الساعات ومع مدار يقظتي، أفكّر وأتأمّل، وأقلب صفحات الكتب والأفكار في ذهني دون انقطاع. أضاف الصدر: بل يحصل أحياناً، أنْ ترافقني الكتب والأفكار، حتى وأنا في النوم، حيث أجدُ نفسي أفكر وأتأمّل وأراجع وأُناقش؛ وهذا هو الفارق بين الصيغتين، فالأولى سؤال كمي عن عدد ساعات القراءة يومياً، فيما الثانية هي كشف عن علاقة دائمة مع المعرفة قراءةً وفكراً وتدبراً.
في لوحةٍ أخرى، كانت تستثيرني على الدوام همة الراحل الشيخ باقر شريف القرشي، وأنا أراقب إنتاجه يتوالى دون انقطاع، منذ أواسط خمسينيات القرن المنصرم حتى لحظة وفاته سنة 2012م. قررت أنْ أسبر بعض أسرار هذه الظاهرة، فوجدت بعض عواملها تعود إلى طبيعة البرنامج اليومي للقرشي، ومنحه القراءة والبحث الحصّة الزمنية الأكبر من دورة حياته اليومية، حيث كان يقتّر على نفسه بالنوم ويوفّر الوقت للبحث والقراءة. لقد سمعت منه مرّات، أنه قلما ينام في الليل ساعات طوالاً كما أفعلُ أنا وسواي من البشر، بل يكتفي من ليله بهجعات تريح جسده من التعب، وتزوده بطاقة تشحن عقله وجسده ليستأنف العمل، ولا زلت أذكر مقولته التي كررها أمامي في لقاءات عدة، على مدار سنوات: تنام أعين الناس، وباقر شريف القرشي مستيقظ مع
 الكتاب!
صديق أعرفه دخل ميدان البحث المعرفي الرصين متأخراً، فسعى إلى تعويض ما فاته من السنين بفعل الحصار وضغط المعيشة في العهد المُباد. رأيت منه عجباً في المثابرة والجلد والصبر على مشاق المعرفة، فكان مما فعله أنْ ترك مكان سكنه وراح يقضي أشهر بعد أشهر، ينام في محلّ عمله مستفيداً من الوجود المستمر للتيار الكهربائي، فجاءت الحصيلة عدّة كتب ومجموعة بحوث ومقالات دون انقطاع واختصاص دكتوراه بالانثربولوجياً، والأهم من ذلك كلّه أنَّ بلدنا كسب به باحثاً ينطوي على رؤية معرفيَّة عميقة للأمور، وعقل وقاد.
أخيراً، أعرف أحدهم يقول إنَّ النوم يفرّ مني، ما انْ أمسك بالكتاب، فيتوهج عقلي وتغلب عليّ اليقظة، ولو كنت منقطعاً عن النوم يومين، في مقابل كثرة كاثرة من أدعياء المعرفة والثقافة، لا يخجل من القول: إذا أردت أنْ أنام فتحت الكتاب، فأغفو من فوري أو بعد برهة!