القمع الوردي

منصة 2021/06/06
...

ميادة سفر

يبدو أنّ الإنسان يظل في حالة جوع عاطفي منذ ولادته وحتى آخر لحظات حياته، ذلك الجوع الذي يترجم بأشكال وصيغ متعددة ومختلفة بطبيعة الحال من كائن إلى آخر، وفقاً للظروف والمجتمع الذي يعيش فيه، مع فارق أنّ الطفل يتلقى الحب والعاطفة من دون أنْ يطلب، لمجرد كونه كائناً صغيراً بخدود منتفخة، وبشرة ناعمة، وحركات غريبة، يجذبنا لنعطيه كثيراً من الاهتمام والرعاية، لكننا ومع تقدمنا في العمر، واكتسابنا للعلوم والمعرفة، وترقينا في السلم الاجتماعي والوظيفي، ووعينا بانتمائنا لطبقة معينة سواء اجتماعياً أو معرفياً، ستتغير نظرتنا إلى هذا الغير، ونبدأ بمنحه شأناً مهماً في حياتنا ومستقبلنا، وتتحول رغبتنا في نيل الرضا والقبول إلى هاجس وقلق يراود حياتنا في كل عمل نقوم به، وكل كلمة نتفوه بها، وحتى كل زي من الملابس نرتديه، متسائلين دوماً وأبداً عن رأي الآخرين بنا، هل سيتقبلنا؟.. هل سيعجب بنا؟ نتوجس من ردود الفعل عن ما نفعله ونقوله... أحوال مرهقة ومتعبة بتنا نحياها، تفقدنا الكثير من لذة الحياة والعمل ونحن نضيع وقتنا في اقتفاء الآخر لكسب رضاه ونيل محبته.
في كتابه (قلق السعي إلى المكانة) يقول آلان دو بوتون: «إنّ سعينا لأنْ نكون محبوبين ومقدرين من الآخرين يتفوق على سعينا لحيازة أي شيء آخر»... فهل تحتاج نظرة الآخرين إلينا إلى كل هذه التضحيات؟.. وإلى أي مدىً نحن حقاً مقيدون بما يراه الآخر؟.
إنّ هذا الآخر الذي نسعى إليه، باحثين عن رضاه، متلهفين لإطراءاته، ساعين للفت نظره، سيتحول إلى دكتاتور يمارس سلطته القمعيَّة علينا، ليثبت هو الآخر وجوداً ومكانة ربما كانا مزيفين لكننا أسهمنا بمنحه قدراً أكبر منه في الحقيقة، سوف يمارس هؤلاء نوعاً من القمع الناعم الوردي علينا، يعلون من يشاؤون، ويحطون من قدر من يشاؤون، متبعين سبلاً وأساليب مختلفة، بينما نحن نتبعها راضين مرضيين، ممتنين لهم وكأننا لولاهم ما كنا...
نقضي أوقاتاً طويلة في الأسواق والمولات والمحال ونحن نبحث عن آخر صيحات الموضة التي أرادتها دور الأزياء لهذا العام، بغض النظر عن مناسبتها لنا أم لا، طالما أننا باتباعها، ربما نسمع كلمة إطراء من هنا «ع الموضة»، أو نظرة إعجاب من هناك، وحتى في سعينا للعلم والحصول على شهادات عليا نمارس وتمارس علينا الستراتيجية ذاتها، ترانا نضع تخصصنا في ميزان المجتمع، نخضعه لمفاضلات عدة، ما بين نظرة المجتمع ورغبتنا، لنختار في نهاية المطاف ما يمكن أنْ يمنحنا رضا المجتمع، ويضفي علينا ألقاباً تشي بمكانة ما..
إننا ونحن نسعى لكسب رضا ومحبة الآخرين، ونقبل القمع الملون الذي يُمارسُ علينا، نفقد شيئاً فشيئاً بعضاً من شخصيتنا، وتنعدم ثقتنا بأنفسنا، فلا نقدر المكانة والأهمية وجودة الأعمال التي نقوم بها، نستخف بموقعنا، وأذواقنا، ورؤيتنا للأشياء، نشعر بالأمان في وجودنا.. لذا علينا أنْ ننقذ أنفسنا.. فلا نعول كثيراً على ما يفسح أمامنا من تصورات وأفكار وآراء.. ولنمنح لنا حيزاً من الحرية والثقة لنكون كما نشاء ونرغب.. فالثورات لا تقوم ضد الأنظمة فقط.. تقوم ضد المجتمعات.. وأحياناً نثور على حالنا.