بارتيني.. البارون السوفييتي الأحمر

بانوراما 2021/06/06
...

 اغوستينو بيتروني
 ترجمة: بهاء سلمان  
خلال شهر تموز الماضي، تم سحب ما يطلق عليه اسم (وحش بحر قزوين) من سباته طيلة عقود طويلة على الساحل، ونقله الى مكان آخر، ليصير معلماً سياحياً جاذباً، باختصار لقد أسرت هذه الآلة الاستثنائية الضخمة وسائط الانترنت، ولسبب جيد آنذاك، تمكنت هذه المركبة وهي عبارة عن نصف طائرة ونصف سفينة، وتعود لزمن الحرب الباردة، من الطيران بسرعة توازي سرعة الطائرة النفاثة، وحمل الدبابات لآلاف الأميال، لكن قلة فقط يتذكرون العقل المدبر للطيران الذي مهد الطريق لمثل هذا الاختراع المذهل، وهو روبرت لودفيغو بارتيني، الرجل الذي عرف في زمانه بلقب البارون الأحمر السوفييتي.
وكانت هناك صدفة تاريخية، بعدم ولادة بارتيني واقعا في روسيا، وقد أقدمت أمه المراهقة غير المتزوجة على إغراق نفسها بعد ولادته بفترة قصيرة جدا، سنة 1897، لتتركه برعاية والده، النبيل النمساوي الهنغاري لودفيغو اوروس دي بارتيني، ورغم انتمائه لطبقة النبلاء، فقد تخلى عنه والده، لينشأ الطفل وسط اسرة فلاحية قبل أن يعود الأب ويعترف به.
وعندما أصبح شابا، خدم روبرت في الجيش الإمبراطوري، وحارب ضد الروس خلال الحرب العالمية الأولى، وأخذ أسيرا سنة 1916 الى سيبيريا، لتمثل تلك اللحظة تحول الشاب اليافع، الذي كان حينها بارونا يتكلّم سبع لغات ومتبحّرا بالفيزياء والكيمياء، ليصير بلشفيا؛ أو على أقل تقدير، هذا ما يعتقده جيوسبي كيامباغليا، المهندس والمؤرخ العسكري الإيطالي، مؤلف كتاب {حياة وطائرات روبرت بارتيني}.
 
مهمات متعددة
بدورهم، حاول السوفييت، الذي كانوا مقتنعين أيضا باعتناقه لقضيتهم، إرساله إلى إيطاليا لغرض التجسس لصالحهم لغاية سنة 1922، وبعد استيلاء الفاشيين على السلطة في إيطاليا، انتقل روبرت إلى شبه جزيرة القرم، وبدأ بتصميم الطائرات الروسية، وأجرى تجارب على السوائل والمواد بوسائل تناسب كونه عالما أكثر منه مهندسا، وكان دوره الأساس هو متابعة الأفكار الجريئة والمبتكرة، وفقا لسيرجي تيزاك، أستاذ علوم النقل لدى جامعة ماريبور في سلوفينيا.
بطبيعة الحال، هذا الأمر معناه أن غالبية عمل بارتيني كان خياليا بطبيعته، يقول تيزاك: {لقد نفذ القليل جدا فقط من أفكاره عمليا، مع تسجيل أربعة نماذج أولية فقط باسمه، كان الاحساس بتأثيره في نهاية الأمر أكثر اتساعا، فقد أوحى أفكاراً خيالية لنحو ستين طائرة مختلفة الأنواع}.
من بين هذه الطائرات تبرز طائرة (ستال-6)، وهي طائرة مقاتلة أحادية السطح، كانت أسرع ما ابتكر في زمانها، وصمم روبرت قاذفات قنابل بعيدة المدى، وطائرات ناقلة للدبابات، وطائرات أسرع من الصوت، لتمثل إلهاما لصناعة طائرة الكونكورد، التي مثلت فارقا تاريخيا بصناعة الطائرات، وكتب تيزاك: {في روسيا اليوم، يوصف بارتيني كعبقري أسيء فهمه وممن كانت أفكاره تسبق زمنه، ويقارن بنيكولا تيسلا}.
وعمل بارتيني أيضا على تطوير نظرية النقل بين القارات، والتي توضح أن الطيران فوق الأرض سيمثل الوسيلة الأكثر ديمومة للتنقل على وجه كوكب الأرض. ولم تكن قدرات هذا النوع من الطائرات تحمل أوزاناً تفوق ثلاثين بالمئة عن الطائرات العادية فقط، وإنما تمتعت بميزة قلة الاحتكاك، لتزداد كفاءتها بشكل ملحوظ.
 
قلة تقييم
صارت مبادئ روبرت المتعلقة بتأثير الأرض حيوية تماماً في إنشاء طائرات برمائية، مثل وحش بحر قزوين، ووصلت إلى درجة تمت تسمية ظاهرة الديناميكية الهوائية التي تزوّد الطائرات بالطاقة بتأثير بارتيني، ومع ذلك لم يتلق روبرت مطلقا التهليل الواسع الانتشار داخل روسيا الذي حظي به نظراؤه من المهندسين المشهورين، ربما لأنه من أصول غير سوفييتية، يقول كيامباغليا: {كان مشهورا فقط ضمن نطاق صناعة الطيران، وصار رئيس مهندسين، لكن لم ينل المراتب العليا، مثل ارتيوم ميكويان وميخائيل غوريفيتش، لأنه لم يكن روسيا}.
لم يبق من نسخة وحش بحر قزوين إلا شيء نادر الوجود، ويعود سبب ذلك جزئيا إلى أن التقنيات الجديدة انتفعت من إحدى فوائد تلك الوحوش الرئيسة، إلا وهي الطيران تحت مستوى رادارات قوات الأعداء. وما زالت تلك الماكنة العملاقة تجذب إليها اهتماما متجددا من قبل خبراء النقل، اذ تعمل شركة {ويغتوركس} في سنغافورة لإنتاج الطائرات على صناعة طائرة حديثة اطلق عليها {سمكة الهواء}. وتنفذ الحكومة الصينية محاولات كثيرة اعتمادا على فكرة وحش بحر قزوين، بينما تفكر روسيا بإزالة الغبار عن سفنها العملاقة لمهمات تنفذها في القطب 
الشمالي.
ولدى وحش بحر قزوين مستوى أقل من استهلاك الطاقة، ما جعلها أكثر ملاءمة لتغيّر المناخ؛ فهي أكثر براعة باجتياز الأنهار والقنوات المائية، والقفز بسهولة فوق السدود بينما تتحرك بسرع لا تعيقها المياه المتلاطمة، وبإمكان تقنيات هذه الماكنة أيضا أن تؤدي إلى صناعة طائرات درون ملاصقة لسطح البحر التي بامكانها نظريا حيازة الحصة الأكبر من صناعة السفن، اذ ستكون سريعة جدا.
هذا كله يشير إلى أنه حتى لو لم يتم تقييم بارتيني دوما في زمانه، ربما سيعمل المستقبل القريب على الاحتفاء به وتمجيده.
 
مجلة اوزي الأميركية