شبهة الدولة الدينية

آراء 2019/02/16
...

   د . قيس العزاوي
 
 
تحفل الفضائيات العربية بمجازر معرفية ناجمة عن تضارب المصطلحات السياسية الوافدة على لغتنا وحياتنا دونما تمحيص أو تدقيق بما تعنيه وبماهية تاريخها المفهومي. يحدث ذلك يومياً الى درجة ان احد الباحثين في علم الاسلام السياسي وهو الفرنسي فرانسوا بورجا يعتقد ان مشكلة " الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا" هي في الواقع مشكلة استخدام متناقض للمصطلحات مابين الشرق والغرب او بالاحرى ما بين الاسلام والغرب.
  و"مجزرة" الاستخدام الاجوف للمصطلحات السياسية الغربية تبدأ من عملية تحديد الاركان المعرفية للحوار السياسي العربي اليومي.. فمصطلحات مثل: الوطن والوطنية والمواطنة والدولة الوطنية والدولة القومية والدولة المدنية ودولة القانون والدستور وفصل السلطات وفصل الدين عن الدولة ومواصفات الدولة الدينية والعلمانية... كل هذه مصطلحات يجري استخدامها في الحوارات فتبدو خارج سياقاتها المفاهيمية التي تستدعي اول ما تستدعيه الفهم الدقيق لما تعنيه بمعرفة شروط تحققها و تطابق الفكر مع الممارسة.
   ليس لأننا كتبنا الدستور وصوتنا عليه فاننا دولة دستورية، فلكي نكون كذلك لابد من تطبيق للمواد الدستورية، وهذا يعني فصل السلطات الثلاث (التشريعية والقضائية والتنفيذية) وإلزامية توازنها، في وقت تنتصر السلطة التنفيذية في دولنا العربية والاسلامية على باقي السلطات وتخضعها لمشيئتها.. ولا تعني دولة القانون ان القانون سيطبق على الجميع دون استثناء، فذلك حلم لم يتحقق. وليس لأننا نجري انتخابات دورية لمجلس النواب اننا دولة برلمانية ونطبق مبدأ التداول السلمي للسلطة، فالكل يعلم الحاكم والمحكوم اننا ننتخب العصبيات الحزبية والطائفية والقومية والعائلية وتتلاعب باراداتنا السياسية القوى المالية . وليس لأننا وصفنا دولتنا بالوطنية فهي وطنية بالفعل، فالوطنية تستدعي امتلاكا كامل السيادة على ارضنا وشعبنا قبل كل شيء...
    وكما نرى فإن الشاعر معروف الرصافي اكتشف منذ اكثر من نصف قرن زيف تلك المصطلحات حين قال"علم ودستور ومجلس امة كل من المعنى الصحيح محرف". وهذا يعني أن خلافاتنا ومعاركنا اللفظية الاعلامية وجدالاتنا الفكرية ونضالاتنا السياسية لا معنى لها طالما غاب المعنى الحقيقي لمصطلحاتنا السياسية المستخدمة، وطالما لم يتطابق الفكر مع الممارسة.. فعلى سبيل المثال امضينا قرابة نصف قرن منذ دولة "العلم والايمان" لأنور السادات ونحن نتحارب لنصرة الدولة الوطنية تارة او الدولة القومية تارة اخرى او نصرة الدولة الاسلامية اخيراً.. ومن المؤسف القول بأننا كنا على ضلال في كل ما طرحناه .
     فقد عجزنا عن تحقيق الدولة الوطنية من جراء تبعيتنا السياسية والاقتصادية والعسكرية والامنية للقوى الخارجية، مما جعل سيادتنا على مقدراتنا وثرواتنا منقوصة.. وعجزنا عن تحقيق الدولة القومية منذ ان شجعتنا عليها الدراسات الانثولوجية الغربية، ووضعت لنا اسس قيام دولة قومية تركية طورانية ودولة عربية موحدة قومياً، شرط ان نلغي الرابط الديني الذي تقوم عليه الدولة العثمانية، بل لم نوفق حتى لتحقيق وحدة بلداننا الوطنية لكي نمضي قومياً.. اما الدولة الدينية ولها بعض الخصوصية في تاريخنا وحاضرنا العربي، فهي الاخرى ليست سوى شبهة ليس إلا!!
    فمن بين أبرز واعمق الالتباسات التي تقع فيها الكتابات العربية عموماً هي شبهة وجود الدولة الدينية في التاريخ العربي الاسلامي، فلم يعرف العرب الدولة الدينية في قمة مجد الاسلام إذا كنا نتكلم بلغة العصر.. ان مواصفات الدولة الدينية "الثيوقراطية" التي عرفتها البشرية متمثلة في حكم الكهنة أو الحكومة الدينية، هي نظام حكم يستمد الحاكم فيه سلطته مباشرة من الله، وتكون السلطة بيد الكهنة، فهل حدث في التاريخ الاسلامي إن قامت دولة دينية اسلامية يحكمها الفقهاء، والسلطة فيها بين ايديهم فقط، ام ان الخلفاء قاموا بتسخير السلطات والفقهاء والمذاهب لخدمتهم؟ لم تكن الدولة الاموية ولا الدولة
 العباسية، ولا حتى الدولة العثمانية دول دينية ثيوقراطية بالمفهوم والسياق الذي عرفته الدول الاوروبية في العصور الوسطى حيث كان البابا رئيس الدولة وهو نائب عن الله. لقد كانت الدول الدينية دول الحكم المطلق والدين الواحد لا تعترف بدين غيره والتشريع فيها حق لرجال الكنيسة، وللبابا قداسة وعصمة لانه يحكم بتفويض إلهي. وقد كان حكام مصر الفراعنة يدعون انهم الهة وبعضهم تواضع واعتبر نفسه ابنًا
 للإله.
ان الدولة "الدينية" التي عرفها التاريخ الاسلامي هي بالاحرى دولة تعتمد على الرابط الديني الاسلامي في قيامها ووحدتها وتطبق الى جانب الشرائع الاسلامية نظاما شبه مدني يعترف بالاخر الديني والطائفي او القومي، وكما حدث في الدولة العثمانية، فقد كان هناك نظام خاص هو "نظام الملل العثماني" يحفظ حقوق المسيحيين واليهود من حيث انهم رعايا عثمانيين ولهم اماكن عبادة مصانة ولهم محاكمهم الخاصة، وتلك مواصفات الدولة المدنية وليست مواصفات الدولة الدينية.
    مما سبق يتضح لنا ان الدول التي اطلق عليها دول اسلامية في تاريخنا هي في حقيقة الامر، ليست دولا دينية بالمفهوم الثيوقراطي الذي عرفه العالم الغربي، انها نوع خاص من الدول المدنية التي كانت تطبق شرائع الاسلام في البداية، ثم تطورت لكي تطبق بعض هذه الشرائع ليس الا.. فمنذ قرابة قرنين من الزمان غادرت الدولة العثمانية كما يقول المؤرخ التركي فؤاد كوبريلي مسيرة التاريخ الاسلامي فدخلت طائعة في تاريخ الغرب عندما تبنى العثمانيون في مرحلة التنظيمات(1839-1879) القوانين الفرنسية والبلجيكية والبريطانية في مناحي الحياة التجارية والاقتصادية والعسكرية والسياسية كافة. ولم تبق من شرائع الاسلام سوى الطقوس الاجتماعية وقانون الاحوال الشخصية.. وحتى هذا الاخير بدأ في الضمور والاختفاء بعد ان مزقت اغلب بنوده الاتاتوركية في تركيا والبورقيبية في تونس.