جينفر سميث و دورة القصة القصيرة الأميركية

ثقافة 2019/02/17
...

د. نادية هناوي
 
 
 ذهبتْ الباحثة الأميركية جينفر سميث في بحثها( قصةٌ واحدةٌ، أصواتٌ متعددةٌ، اشكاليات الوحدة في دورة القصة القصيرة) وهي اطروحتها للدكتوراه من جامعة انديانا عام 2011، الى دراسة تاريخ النوع القصصي الذي سمّته( دورة القصة القصيرة) مستعيضة به عن تسميات أخر من قبيل( متوالية القصة القصيرة / رواية القصة / الرواية المركبة) وقصدتْ به مجموعة من القصص المترابطة والمنفصلة في آن واحد، وتتبعته منذ القرن التاسع عشر وصولًا الى التطورات التي طرأتْ عليه في الوقت الحاضر، واجدة أن دورة القصة القصيرة هي أكثر الأنواع تطورًا في تاريخ الأدب الأمريكي. والسبب مائعية هذا النوع وانقسامه المعتاد بين أشكال متباينة، كتلك القصص التي كتبتها كارولين ماتيلدا وسارة اورني جيويت وغيرهما من الكتّاب الذين توصف قصصهم بالاقليمية تأثرا بالحداثويين أمثال شيروود اندرسون ووليم فوكنر، وما بعد الحداثيين مثل لويس ايردريتش وجوليا ألفاريز.
 
افتقاد الوحدة
 ولأن تاريخ كتابة هذه القصص طويل وهو الأكثر نفوذًا في الأدب الأمريكي، لذلك تتخلخل الأرضية التي يريد أن يستقر عليها هذا النوع المنبني على أساس اتساق الموضوع والثيمة والاسلوب في شكل دورة. ولهذا السبب تظهر الدورات القصصية تارة وتختفي أخرى، معبرة عن المخاوف المرافقة لكتابة هذا النوع من القص سواء في مرحلة الحداثة أو ما بعدها من ناحية علاقة القصة القصيرة بالنص أو علاقتها بالقارئ.  
وتعلل جينفر سمث كتابة القصة القصيرة في شكل( دورة )تعليلًا ثقافيًا يجعلها ذات خصوصية في السرد الأمريكي، فالوحدة التي يفتقدها المجتمع الامريكي هي الوحدة التي تبحث عنها القصة القصيرة نفسها، والهوية البشرية المؤقتة والطارئة هي تمامًا النوع الذي يريد أنْ يتقولب في هيأة او صيغة لكنه يظل مشتظيا غير ثابت ذاتا ومكانا وزمانا وذاكرةً جماعيةً، حيث لا انتساب أو استقرار أو انتماء. 
ولئن كان الثبات هو أهم سمات النوع الأدبي، تصبح دورة القصة القصيرة محاولة لا واعية في صنع كون متخيل مشحون بالرغبة الدائمة في التوحد واللملمة والتقوقع الذي يحقق طمأنينة مؤقتة في ظل واقع معيش يفتقد إليها. 
وهذا ما جرّب الكتّاب الأمريكان مرارًا وتكرارًا الكتابةَ فيه منذ القرن التاسع عشر، باحثين عن نموذج كتابيّ ينعطف بهم جماليًا نحو الوحدة المفتقدة في الواقع، مكثفين وجهات نظرهم التي تحقق لهم اتساعًا في الإحساس بالمكان، كما تحررَهم من اغلال الزمان الروتينية، وتقاوم الركود لا سيما في اربعينيات القرن العشرين بوصفها حقبة انتقالية في الحداثة الاميركية .    
والذي يقرأ الفصول الأربعة التي حوتها اطروحة جينفر سمث سيتوصل الى حقيقة مفادها أنّ ما سمته( دورة القصة القصيرة) يواجه تحديات واشكاليات من ناحية التموقع الحداثوي للدورة  والتفريع المستمر لاشكال كتابية معاصرة، لها قرابة بها من ناحية الكتابة في الزمن المتخيل الاستعاري بعيدًا عن ما هو معقول. وتنتهي سمث في خاتمة اطروحتها الى أن أهم التحديات  التي تواجه ( دورة القصة القصيرة) وهي المنهج ، والتلقي ، والنشر. 
 وبهذا تصل جينفر الى الطريق نفسها التي وصلها قبلها نقاد آخرون مثل روبرت لوشر وروبرت شولتز وفورست انجرام. 
 
القصة القصيرة والبناء الدينامي
وبعد مرور سبع سنوات على اطروحتها تأتي جينفر لتطرح كتابها (دورة القصة القصيرة الأمريكية American short story cycle  The) 2018 وهو من منشورات جامعة ايندبيرغ، وفيه تحاول أن تعزز ما كانت قد اجترحته في أطروحتها عن( دورة القصة القصيرة ) محاولة اختبار أدواتها في انجاز التيقن من وحدة دورة القصة القصيرة واستقراريتها وتماسكها كنوع أدبي، مما لم تستطع إثباته في اطروحتها، التي كان من نتائجها أن التنظير لدورة القصة القصيرة يحتاج الى إعادة تقييم للمكانة التي يحتلها في تاريخ الادب الامريكي من ناحية التأثيرات والمخاوف والأساليب في تفككها ووجود الثغرات واللامركزية.
 فهل ستنجح في مشروعها هذا وهي تحاول اثبات علاقة دورة القصة القصيرة بالبناء الدينامي للهويات الاثنية والعرقية والاقليمية ؟ 
لم يكن أمر إثبات الاستقرارية في دورة القصة القصيرة بوصفها نوعًا ادبيًا بالأمر الهين على سميث، لأنها تجاوزت التراكم النظري الذي تمخض عن دراسات ما بعد الحداثة حول الاجناس وانفتاحها. 
والذي يقرأ الكتاب سيلمس أنَّ الباحثة لم تقدم شيئًا جديدًا عما كانت قد قدّمته في أطروحتها، وعلى الرغم من أن الباحثة عدتْ النوفيلا نوعًا دوريًا يقوم على التكرار، فإنها أقرت بأن التفكك قد يوصلها الى اللانوع unclassified . ومن المقالات التي تحيل عليها جينفر مقالة( شاعرية القصة القصيرة الدورية) لكيندي 1988 وفيها تنتقد مسألة الوحدة التي سيطرت على النقد الموجه لدورة القصة القصيرة على أساس أنّ التماسك يصنعه القدر وليس نية المؤلف، كما تحيل على لوشر Luscher الذي قاربَ شكل التوالي بشكل السوناتا.وخالفته ماغي دان وان موريس اللتان ذهبتا الى أن النوع الدوري هو رواية وليس قصة قصيرة.
 بينما عدت جينفر عدم اليقين في كتابة القصة القصيرة، تبعة مرحلة ثقافية واضطرابات ايديولوجية تجعل الكتابة القصصية القصيرة في شكل دورات تتكرر، لكن بلا وحدة ضمن علاقة عضوية متناظرة، تصلح مع المجتمعات المتفاوتة الأُسر دورة القصة القصيرة هي أقدم أشكال السرد المكتوب، مرجعة أصولها إلى القرن التاسع عشر. لكن الدورات من منتصف القرن العشرين الى اليوم صارت تتمظهر في شكل غير متجانس، تشوبه جماليات التشرذم والانفصال والتكرار والتهجين والذاتية.
وتنتهي إلى أن القول بالنوع غالبًا ما يتملص من قدرتنا على إمكانية جعله شموليًا، ولأن القصة القصيرة نوع ذري؛ فإنها سواء سميت فسيفساء أو هجينا أو رواية في قصص أو قصصًا في رواية، فإنها كلها تحمل بصمة دورة القصة القصيرة، وقد جمعها كتاب واحد، كانعكاس للواقع والهجرة ونقد نستولوجي وتجريب حداثوي. وكأن دورة القصة القصيرة هي دورة الأمة الامريكية في الاحساس بالحاجة الى أدب محلي هو بمثابة مشروع فني أساسه دائرية الزمن باتجاه الحداثة. 
وجدير بالذكر هنا أنَّ المجتمعات في الأغلب لديها هذا التنوعُ في الهويات والأعراق والألوان، وهو ينعكس في آدابها في أشكال وصيغ فنية مختلفة، بيد أنّ تلك المجتمعات لا تعاني عقدة كتلك التي تعانيها الأمة الامريكية.