شاشات الشارع اليومية

ثقافة 2019/02/17
...

ياسين النصير
 

بامكان المكان المديني أن يكون واجهة للقراءة البصرية، كما لو كانت الأبنية صحيفة يومية يمكن أن تقرأ فيها عناوين مختلفة عن حركة السوق والاقتصاد والسياسة والمجتمع والعمران والخطط ، هذه الصورة البانورامية لشاشة عريضة تعرض لنا المدينة وحياتها، كما لو كانت صحيفة ملونة، وثقافة بصرية مباشرة ، ماذا سنجد في مدننا العراقية، وأنت تنظر إليها عبر منظار حداثة الإعلان؟ بالطبع ستكون ثمة مفارقة مؤلمة، عندما ترى الشاشة المضيئة  تعرض صورة لمدينة مضيئة، ،لكنك لا تجد مدينة مضيئة بينما الشاشة مضيئة. هذه أولى المفارقات التي تقدمها شاشات الإعلان، أنهم – كما تقول الشاشة- بصدد تنفيذ مشاريع للعمران المديني، فتبدو الشاشة ممتلئة بالوان طيف الخطط والمواقع، مع مساحات خضراء، وأبنية من طوابق، وبجوارها مدارس، وجامعة، وأسواق، وطرق مبلطة، ومستشفى، ومراكز شرطة...الخ.  إنك ترى صورة المدينة العراقية مقدمة لك بصريا كأي صحيفة ملونة، يمكنك أن تشتريها.
 الحقيقة أن الشاشة حالما تنطفئ سيتغير كل شيء، ودائمًا لا تنطفئ نتيجة ضعف التيار الكهربائي، أو خلل في أعمدتها الراسخة في الشوارع ومقاطع الطرق، وأمام مداخل المشروعات فقد جرى تثبيتها بقوة السلطة، لافتة مضيئة لا أحد يحملها ولا أحد يسير خلفها، إنما في ثباتها على أرض لمشاريع تبدو أننا جميعًا نحملها، ونسير خلفها، فتصبح الشاشة وما فيها صحيفة يومية مزيفة، حتى لو تغيرت عنوانات مواضيعها، وتبدلت أسماء كتابها. هذه الصورة التي يضعنا فيها المقاولون، تبدو وكأنها صورة عالمية مبهجة، ومضيئة، قائمة على جدار كونكريت، ولكن ما أن تسقط قطرات مطر حتى ينهار الجدار، بينما تبقى الشاشة مضيئة،. فليس ثمة مشاريع تنفذ، ومع ذلك تبقى الشاشة مضيئة وتتكلم.
هذه الصورة سبق أن تحدث عنها نيتشه، بما يجعلها صورة عالمية متداولة عبر القرنين التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، وهو يتحدث عن ألمانيا، وعن أوروبا " هل تعرف ما هو "العالم" بالنسبة إلي؟ (يقول نيتشه) هل أريك إياه في مرآتي؟ هذا العالم: وحش من طاقة، بدون بداية، بدون نهاية...سجين" العدم" كما هو سجين قيوده ". وأنا اشاهد عشرات الشاشات المضيئة عن مشاريع صناعية وعمرانية في مدننا، أقول ان نيتشه كان يتحدث عنا أيضا، وبالرغم من الصورة العدمية التي يبنيها نيتشه، أفرح، لأننا أصبحنا بفعل مايضاء من شاشات، ضمن العالم، !!.  إن البناء المديني يجب الا يكون مجرد مسالة تقنية، بل مسالة جمالية ايضا وبمعناها الكامل، وهذه ايضا كلمة لكوربوزيه، وهو يعيد إنتاج المدينة المركز، فأزداد فرحًا، لأن المعنيين في بلادنا فكروا بإنسان المدينة في الغد. وبعد مضي سنة، على حضور الشاشات والتصريحات، أجد نفسي في سؤال اوسع، عندما تتأمل مدنًا عبرالشاشة، لتسأل عن معنى"العالم"  الذي نعيش فيه. لا تجد جوابًا،  فالعالم بالنسبة لي هو البلاد، حتى لا أتجاوز واتحدث مثل ما يتحدث به نيتشه، أتحدث عن الشاشات المزيفة التي تعرض بلوحاتها مشاريع وهمية أمام بصري، هل يمكننا الحديث عن العراق عبر الشاشات؟ اقول إن العراق هو العالم الذي لم يدخل اي قاموس للحداثة.. لأن الشاشة ليست لنا، بل للشركات، الشاشة لا تقدم إلا السلام عليكم، كما يقول الشاعرالمغربي عدنان ياسين. ، وغدا ستكرر الشاشات كلامها الصورة، كما لو كانت صحيفة يومية ملونة ، دون أن يتغير فيها أي موضوع.