الينابيع تتدفق والخلق يستمر

ثقافة شعبية 2021/06/13
...

 كاظم غيلان 
 
عند منتصف خمسينيات القرن الماضي سافر مظفر النواب الى أقاصي اهوار الجنوب العراقي - الكحلاء، ليكتشف أسرار العامية العراقية من درر أصوات مغنين شعبيين غلبتهم الموهبة والعفوية، فاكتشف منها لوناً شعرياً يشبه ذلك الوشم السومري الأخاذ في هندسته وجمالياته العالية، كان ذلك الاكتشاف وسط تلك المياه التي خلدتها الأساطير وكتابات الرحالة من المستشرقين الذين اذهلهم عالمها، ولذا فقد استعان بفطنته وعبقريته في اكتشافين معا: الماء ولغته الصافية، فكانت (للريل وحمد) 1958-1956 فتحاً أعان المياه في ينابيعها على التدفق المستمر.
لم يستقر النواب في بقعة مائية محدودة، بعد أن اشتد ولعه بها فراح الى مسافة مجاورة للاولى اسمها (الميمونة) ليتعرف هذه المرة على المدهش في تاريخ انسان هذه المياه وصراعاته ضمن ثنائية الفلاح - السلطة، ليحول الرصاص الى لغة ويدخلها في قاموس العامية، ويعلن الولاء الاول للثورة في اهوار (الغموكة) صائحاً: (ابوس ايد اليشيل البرنو الزينه.. ابطرك ثوبه وابايعها).
بقي النواب منفردا في ريادته وخصوصيته لا يشبهه احد رغم كثرة مقلديه ومجايليه فكرا وشعرا، لأنه بلغ (الذروة) حسب الكاتب السوري عبد الله الشاهر.    
الا أن ينابيع جاورته اخذت بالتدفق لتغسل ارض شعر العامية من عوالق وأتربة الأزمنة الغابرة، راح الشعر الجديد يغنى ومن ثم يصبح انشادا انسانيا ينافس الوان الابداع الاخرى، ليعانقها في المحطة التي وجد لاجلها {الانسان}.
وهكذا تدفقت الينابيع (علي الشباني، ابو سرحان، عزيز السماوي، كريم محمد حمزة، طارق ياسين، كاظم الركابي ...الخ)، انهم رحلوا عن الدنيا لكن بقيت قصائدهم قائمة في وجدان الناس، على العكس مما انتجته قطعان الحروب والاحقاد التي اسست لها فاشية العراق منذ ذلك الفجر الدموي في 1963، هذه القطعان التي انتجت ثقافة العنف ماتت وهي في حياتها، وتسرحت نتاجاتها الهزيلة مع مواليد شبان العراق الذين ساقهم رمز تفاهتهم لمحارق حروب استعر لهيبها في قلوب الأمهات، فكان النواح واعادت (النواعي) دورتها.
كل ذلك جرى، ويجري، بينما الينابيع في تدفقها بمجابهة باسلة ازاء صخب الفضائيات الهابطة وضجيج المهاويل وسائر منصات الرثاثة والاسفاف، وهكذا صدق هوبكتر في مقولته: {لا شيء يبقى طويلا سوى الخلق الرائع}.