ميادة سفر
لعلَّ أكثر الحروب توحشاً ودمويَّةً تلك التي تحصل بين أبناء البلد الواحد، الأخوة.! أليس الأمر مستغرباً ومستهجناً أنْ يقتل الأخ أخاه.. نعم أمر غريب.! لكنّ التاريخ يقدم لنا عشرات الأمثلة عن الحروب الأهلية التي أودت بآلاف البشر لأجل فكرة ربما، أو انتماءً لحزب أو عقيدة أو إيماناً بأيديولوجيا سياسية أو دينية، أو تحت أي غطاء أو مسمى، تراق الدماء وتزهق الأرواح فرادى وجماعات في سبيل خلافات من الممكن أنْ تحلّ بأقصر الطرق!. اللافت و»المزعج أحياناً» والذي يثير حفيظة ذوي الضحايا أنّ تلك الحروب غالباً ما تنتهي باتفاق مفاجئ وبطرق غير متوقعة، حين يجلس زعماؤها وأمراؤها حول طاولة مستديرة ليتقاسموا الغنائم والبلاد، وتتم عملية «تبويس اللحى» وعفا الله عما مضى. «وهيك بيكونوا اللي راحو.. راحو بلا ثمن» كما أخبرنا الرحابنة في إحدى مسرحياتهم.
التاريخ الإنساني مليء بتلك الأشكال من الحروب، فتلك راوندا، وفيتنام، وكوريا، وبلدان كثيرة غيرها خاضت أشرس المعارك بين الأخوة، أما نحن العرب وفي هذه البقاع التي تتغنى بالمحبة والسلام، فيمكنك أنْ تُحدّث ولا حرج عن تلك الحروب التي تقاتل فيها أبناء البلد الواحد لسنوات، ولما تزل تعيش على صفيح ساخن يمكن أنْ يشتعل في أية لحظة إنْ أرادت جهة ما أو رأت مصلحة لها في إشعاله. أمثلة كثيرة عن حروب الأخوة من لبنان إلى سوريا، العراق، اليمن، ليبيا والسودان، فضلاً عن توترات بين دولٍ عربية مجاورة كدول الخليج. حوادث خلفت وراءها آلاف القتلى والمشوهين والمعطوبين نفسياً وجسدياً، بكل أسف.
لم يغب الموت ولم تتوقف إراقة الدماء منذ نشوء البشريَّة على كوكب الأرض وحتى اليوم، أتقن هذا الكائن الآدمي ابتكار صنوف جديدة ومتنوعة من الأسلحة، وأشكال مبتكرة للقتل... وتنويعات متجددة للتعذيب، وربما لن يشفع لنوبل اختراعه للديناميت، وإنْ صرفت ملايين الدولارات على جوائز تشجع الفنون والآداب والعلوم وتدعو إلى السلام، لأنَّ ذلك الاختراع أسهم في إزهاق أرواح الملايين ولا يزال، ولم تتمكن كل جهود من منحوا نوبل للسلام في تحقيقه بشكلٍ دائم، وحتى منظمة الأمم المتحدة التي رفعت شعار الأمن والسلم الدوليين عجزت عن إيقاف الحروب، بل إنَّ أعضاءها لا سيما الدائمين منهم في مجلس الأمن كانت لهم اليد الطولى في ما اندلع من حروب تحت مسميات شتى ليس آخرها «نشر الديمقراطية» التي لم نسمع إلا باسمها في بلادنا العربيَّة، وصولاً إلى إنشاء المنظمات الإرهابيَّة ودعمها وإطلاقها في بلاد العالم لتعيث قتلاً وتقطيعاً للرؤوس وتدميراً للحضارات.. استمر القتل رغم رفرفة شعارات السلام، وعمّ الإرهاب بالتوازي مع صيحات الأمان، فلم يسلم بلد منه ولا حادَت عن ضرباته شعوب، قتلنا بعضنا البعض، وتحول الأخوة إلى أعداء.. والمصيبة والخيبة الكبرى أنَّ الأوطان لم تتحرر، ولم تعم الحرية التي استجديناها، ولا مورست الديمقراطية إلا لِماماً!.
في روايته «الأخوة كارامازوف» يقول ديستويفسكي على لسان إحدى شخصياته: «لا بدّ أننا كنا وحوشاً، ولا بدّ أننا كنا ملاعين حتى نتذابح طوال هذا الوقت».. يبدو أنّ التوحش والتعوّل والتعطش للدماء، تحول إلى سمة بشرية تتوارثها الأجيال، ولا سبيل إلى دفنها على الرغم من دفن ملايين الجثث عبر تاريخ البشرية، القديم والوسيط والمعاصر.