القصة القصيرة والعبور الأجناسي

منصة 2021/06/14
...

  د. نادية هناوي 
إن واحدة من التحديات التي تجعل كتابة القصة القصيرة غير يسيرة بالرغم من قصرها، هي أهمية فهم مواضعات كتابتها سردياً. هذا الفهم الذي يتطلب كثيراً من العناية والجهد. ولأجل جعل هذه المواضعات مقولبة في إطار، سعى النقاد إلى تقنين قالب الكتابة القصصيَّة القصيرة لكنهم اختلفوا في تحديده وتعريفه كجنسٍ لا لبس يطال إجناسيته، ولا شكوك تحوم حوله، وكإنجاز مفروغ منه توصيفاً ودراسة. واتخذ هذا السعي نحو التقنين طابعا نظريا يهتم بتجريد العملية الكتابية، والتعامل مع المنطوقات بجملة قوانين تشرعن الاعتراف بالقصة القصيرة جنسا أدبيا مستقلا. 
 
والمدهش أنَّ هذا التوجه في التنظير لإجناسية القصة القصيرة لم يكن مرتبطا بالتنوع في المذاهب الأدبية أو الاختلاف في التوجهات الكتابية، وإنما بدأ مع بداية التجريب في كتابتها فنيا في القرن التاسع عشر وعند أهم كتّابها الذين أسسوا لها، وفي مقدمتهم ادجار الن بو الذي كان المنظر الأول لها. وهو أيضا واحد من رواد كتابتها شأنه شأن تشيخوف وموباسان وآخرين مثَّلوا الرعيل الأول المبشر بها جنسا مستقلا وفرضوها لاحقاً فعلياً.
وبالتقدم في كتابة القصة القصيرة ونقدها صارت لها في الأدبين الروسي والأمريكي مكانة خاصة، كما حظيت بحاضنة نقدية غربية، مثَّلها الأدبان الفرنسي والانجليزي اللذان كانا سباقين أيضا إلى احتضانها في الكتابة السردية. 
وانطلاقاً من فرضية العبور بين الأجناس وتبعاتها النظرية ومعطياتها الإجرائية، تغدو القصة القصيرة جنسا عابرا، يستدل على عابريته بتموضعه الإجناسي في قالب له سمات محددة بأركان ومناحٍ هي في الأساس تقع خارج مواضعات التحديد والتقولب. ولا تضاد في هذا الأمر ما دامت القصة القصيرة تمتلك السمة نفسها التي تمتلكها الرواية، أعني سمة العبور بين الأجناس والأنواع. هذا فضلا عن سمات أخرى تجعل عملية القطع بالتجنيس للقصة القصيرة منطقية بوصفها جنساً مستقلاً، وليست نوعاً متفرعاً عن جنس. 
أما مسألة عدها نصاً مفتوحاً، فذلك مما يدخل في باب الحديث عن التجريب وليس التجنيس، إذ ليس ممكنا إجناسيا تجاوز قالب الكتابة القصصية إلى اللا قالب، بينما يمكن تجريبيا تجاوز التقانة أو الشكل أو النمط بحثا عن مقومات أكثر للشعرية. وفي هذه الحالة الأخيرة يكون دور القارئ الاستنطاق والاستكناه استكمالا للبناء وجمالياته، مما تحدث عنه امبرتوايكو تحت مفهوم (النص المفتوح) وتناولته مدرسة كونستانس الألمانية ونظريات القراءة والتلقي بوصف النص رسالة انفتاحية لا قالبا حدّيا.
وبسبب هذه الاستقلالية صارت القصة القصيرة قادرة على ممارسة الصهر والإذابة للأنواع التي تندمج بها أو تتضايف معها، كي تصير ذائبة فيها مشتركة معها ببعض حدودها وقابلة لأن تنضوي في إجناسيتها كقصة قصيرة.
ومن ذلك مثلا التداخل بين القصة القصيرة والقصة الأقصر منها ـ مما درج النقاد على تسميته بالقصة القصيرة جدا أو السرد الوامض أو الأقصوصة، وهو الإشكال ذاته عند الغربيين ما بين القصة القصيرة short - short story والقصة القصيرة جدا very short story. ولم يختلفوا في تسميتها حسب؛ وإنما اختلفوا في إمكانية عدِّها جنسا مستقلا أو لا. 
وإذ لا ننكر أنَّ للقصة القصيرة جدا من الحدود ما يجعلها نوعا قصصيا، لا كما يُعتقد أنها لا تمتلك أي مقوم من مقومات العمل القصصي، فإن العبور بين الأجناس هو الذي يجعل التضايف بين القصة القصيرة والنوع الأقصر منها فاعلية تنافذية اندماجية تصهر النوع الأقصر وهو (القصة القصيرة جدا) في الجنس القصير العابر( القصة القصيرة). وبذلك تنتفي أحقية عدّ(القصة القصيرة جدا) جنسا قائما بنفسه، كما تبطل محاولات البحث فيها عن شكل محدد أو قالب معين أو القول بحدود نوعية وممكنات بناء موضوعية وتقولبات أو ميزات فنية؛ فضلا عن فك الالتباس في مسمياتها، مع وضع حد لمسألة الوصف بـ( القصر) التي هي موضع اعتراض وشد وجذب بين النقاد. وعدَّ الناقد فاضل ثامر مسألة القول في إجناسية القصة القصيرة جدا أو عدمها أمرا خلافيا لا يمكن حسمه، ورد السبب إلى اللعبة السردية ومظهرية التناص.
والقصة القصيرة جدا بوصفها نوعا قصصيا تمتاز بالتكثيف والإختزال والهدف من كتابتها إيصال فحوى فكرة ما أو توجيه رسالة معينة بأسرع الوسائل من خلال التعامل مع اللغة تعاملا خاصا، يجعل لكل كلمة دورها الوظيفي داخل السرد. وهذا ما يمنحها جاذبية الشعر ومدلولية السرد وفاعلية التأثير والادهاش لكن مجال ضم القصة للقصة القصيرة جدا يظل متاحا على الدوام، بسبب سيولة القص فيها، وهو ما يحقق مزيدا من التضايف النوعي والحدودي.
والكاتب إذا جرّب أن يجنِّس نصوصه أي أن يتقصد وضع عنوان جانبي مع العنوان الرئيس، فإن ذلك يظل في حدود التوصيف وليس التجنيس. والكاتب بالطبع حر في توصيف عمله فيعطيه ما يشاء من مسميات؛ بيد أن وجود المجموعات القصصية التي تضمنت القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا بالاشارة الى نوع الأخيرة في العنوان الرئيس حينا أو من دون الإشارة إلى نوعها أحيانا آخر وهي الأكثر بالطبع، فإنه يدلل على حيرة المبدع بسبب عدم وثوقه من الحدود أو لتوجسه من ثبوت القالب. 
وبالرغم من وجود بعض الاعتراف النقدي (بالقصة القصيرة جدا) بوصفها جنسا لوحدها، ومهما كان أمر ترسيخ هذه الاجناسية متنوعا بالكتابة البحثية أو بإقامة الملتقيات أو بتسمية النوادي الخاصة بها أو بتخصيص جوائز خاصة بالكتابة فيها؛ فإن عدم أهلية القصة القصيرة جدا للتجنيس، تنبع من طبيعة شكلها ومحتواها اللذين يجعلانها تتموضع نوعا سرديا لا غبار عليه، يتمتع بمواصفات التغير والقابلية على التداخل والانصهار، لكنه لا يملك رسوخ الجنس ولا اختلافيته، فضلا عن مؤهلات التجنيس الأخرى، ومنها الاستقلال في الاكتفاء بقالب محدد ومعلوم. 
وقد يسأل سائل ما الذي يجعل القصة القصيرة مالكة للقطعية الاجناسية، بينما لا تمتلك القصة القصيرة جدا مثل ذلك، وكلتا القصتين تعتمدان الحكي وتتسمان بالقصر ؟ 
لا شك أنَّ هناك تنظيرات لعدِّ القصة القصيرة جدا جنسا أدبيا، لكنها تبقى محاولات في حدود النظر النقدي ولا يمكن الاستناد إليها كقانون في حسم مسألة تجنيس القص القصير جدا. ونقول محاولات بحكم أدبيات ما بعد الحداثة، التي معها غاب التدشين للأجناس الجديدة بينما تعزز عبور الأنواع المتفرعة والحديثة التفرع إلى الأجناس المعروفة المترسخة. 
والنوع مختلف عن الشكل، لأن النوع إذا حصل وتعرض إلى تطور وأحيانا إلى ثورة مفاجئة؛ فإنه يحتفظ باسمه برغم حدوث تبدل جذري في بناء الأعمال التي تنتمي إليه، بعكس الشكل والنمط اللذين يفتقدان الخصوصية بمجرد حصول تطور أو تغير فيهما.
وأنّى للقصة القصيرة جدا المضي في سعيها نحو امتلاك القالب الاجناسي وبلوغ الاعتراف النقدي به، وهي لم ولن تتمكن من أن تثبت استقلالها في قالب إجناسي خاص بها يتعدى النوع، ويمنحها الرسوخ، وقد تفتت فكرة الأجناس الكبرى وتباعدت معطيات التفرد في الكتابة، بظهور نظريات الانفتاح والتداخل الإجناسي التي أتاحت مساحات أكبر للكتابة والإبداع، بحثا عن خصوصيات كتابية تتيح للأديب تجسيرا في المسافات وتجريبا في الأشكال، بوصف التجريب هو أسُّ الإبداع، وفيه مكمن التوليد والابتكار سواء أكان هذا التوليد بصناعة قوالب جديدة أم كان بالابتكار في إعادة صناعة القوالب نفسها وتجديدها. 
ومع العبور يندمج الحد بالحدود في قالب واحد، فتتقلص عملية ولادة أجناس جديدة، وتتضاءل دعوى التبشير بها، تماما كما تضاءل القول بالنقاء في الأجناس الأدبية التي كانت يوما ما تسمى كبرى وأساسية. 
إن للقصة القصيرة موجبات ثيماتية وشكلية، بها تعد جنسا مستقلا عابرا، لا مولدا وغير متفرع أيضا، وهو ما لا تستطيعه القصة القصيرة جدا التي هي فرع ينتمي الى أصل متولدة عنه هو القصة القصيرة. هذه القصة التي هي نفسها مرت بتطورات تاريخية تم فيها تجريب تكنيكات نصية ومضامين فكرية، أثبتت بمرور الزمن فاعليتها الجمالية. وهذا الثبوت في الفاعلية حقق للشكل الكتابي الرسوخ الذي به تجنَّس في قالب سُمي (القصة القصيرة) ليكون جنسا من الأجناس العابرة. 
ولعل السبب وراء اللاتحديد والسائلية في القصة القصيرة هو قدم نشأتها التي يرجعها بعضهم إلى أبعد من التروبادور وأبعد من المقامة والحكاية الشعبية لتصل إلى بواكير التاريخ الذي وجد فيه الانسان كيانه وشعر بأن له حدودا ينتمي إليها، ولغة يتواصل بها مع الآخرين. 
مؤدى القول إنَّ القصة القصيرة كتابة سائلة الحدود والأشكال، والناظر في قالبها سيجد أنواعاً اندرجت فيها، بعضها قديمة كالخرافة والحكاية الشعبية والمقامة وقصص الشطار والرعاة والفروسية، وبعضها حديثة كالطرفة أو النكتة وغيرها من الأنواع التي بمستطاع القصة القصيرة خلال عملية العبور أنْ تصهرها في قالبها الذي يملك من المطاطية ما به تتجسر الحدود فيتنافذ النوع بالجنس.