منشآت عراقيَّة بُنيتْ بأيادٍ أجنبيَّة {مجلس الإعمار الملكي}.. صرحٌ معماريٌّ على ضفة دجلة

منصة 2021/06/15
...

  د. صلاح عبد الرزاق
كانت خطط التنمية السابقة لحكومة العهد الملكي عاجزة لوحدها عن النهوض بالتنمية المطلوبة؛ وذلك بسبب قلة العائدات النفطيَّة آنذاك. ففي الفترة من العام 1932، أي استقلال العراق وانضمامه إلى عصبة الأمم المتحدة، وحتى العام 1950 كانت عائدات النفط قد بلغت (36) مليون دينار. وهذا يعني أنه خلال 18 عاماً كان معدل الإيراد السنوي يبلغ مليوني دينار فقط. وهذا رقمٌ ضئيلٌ لا يفي باحتياجات البلد نحو التقدم والنهوض.
مشاريع الإعمار والبناء
ومنذ مطلع الخمسينيات شهدت إيرادات النفط العراقي المصدّر ارتفاعاً ملحوظاً، وذلك بعد عقد وزارة نوري السعيد اتفاقيَّة مناصفة الأرباح مع الشركات الأجنبيَّة العاملة في نفط العراق عام 1951. إذ ارتفعت عائدات النفط العراقي المصدر من (3) ملايين دينار عام 1949 إلى (50) مليون دينار عام 1953. ورغم أنَّ الاتفاقيَّة لم يصادق عليها المجلس النيابي العراقي في شباط 1952، لكنَّ العائدات العالية مهدت الطريق أمام الحكومة للبدء بمشاريع الإعمار والبناء وتفعيل مجلس الإعمار الذي تأسس بموجب القرار رقم (7) لسنة 1950 وباشر أعماله في 1952 - 1953. وتضمن القانون تخصيص إيرادات النفط كلها لمشاريع الإعمار والبناء، أي أنَّ عائدات النفط كلها تخصص للموازنة الاستثمارية. وأما الموازنة التشغيليَّة التي تضم رواتب الموظفين والنفقات الحكوميَّة فكانت تسدد من العائدات غير النفطية وخاصة من الصادرات الزراعية والصناعية والتجارية والرسوم والضرائب والكمارك. وقد بلغت حصة مجلس الإعمار من إيرادات النفط عام 1952 ما يربو على 23 مليون دينار عراقي، وارتفعت عام 1954 الى نحو 39 مليوناً ثم وصلت في العام 1955 الى أكثر من 42 مليون دينار (كان سعر الدينار العراقي يعادل آنذاك أكثر من ثلاثة دولارات أميركيَّة).
كان المجلس برئاسة رئيس الوزراء، وعضوية وزيري الإعمار والمالية وستة أعضاء آخرين، يشكلون سكرتارية المجلس، إضافة الى اللجان المختصة والتي ترتبط بوزير الإعمار. وتركزت أهداف المجلس بالدرجة الأساس على النهوض بالواقع العمراني والاقتصادي والصناعي في العراق، ورفع مستوى معيشة الشعب من خلال الوظائف وفرص العمل التي ستوفرها المشاريع المنجزة، ووضع منهاج تنفيذ للمشاريع المتعددة، مع تقديم تقرير سنوي بشأن ما تم إعماره والمقترحات للمشاريع الجديدة. وبدأ المجلس بإعداد خطط تنهض بالواقع العراقي في كل الميادين الزراعيَّة والصناعيَّة والبنى التحتيَّة والمعامل والطرق والجسور والماء والكهرباء ومشاريع الإسكان والسدود وغيرها. فكان من اللازم استيعاب الدوائر والأقسام الملحقة بالمجلس في بناية يضمها وقادرة على تلبية الحاجات الإداريَّة والمستقبليَّة بإنشاء أقسام تخصصيَّة في التخطيط والمتابعة، فضلاً عن الإشراف على العقود مع الشركات الأجنبيَّة التي تتولى تنفيذ المشاريع.
 
مصمم مبنى وزارة التخطيط (مجلس الاعمار)
تم اختيار قطعة أرض تشرف على نهر دجلة في منطقة كرادة مريم، قريبة من البلاط الملكي (القصر الجمهوري) والمجلس الوطني (البرلمان الملكي). 
في العام 1958 تم تكليف المهندس المعماري الإيطالي جيو بونتي (1891 - 1979) Gio Ponti وهو من أشهر المعماريين الإيطاليين، وله أكثر من مئة مبنى في جميع أنحاء العالم، ومنها برج بيرللي Grattacielo Pirelli في مدينة ميلانو الذي تم بناؤه في الفترة (1956 - 1960). ويتألف من 32 طابقاً وبارتفاع 127 متراً، ومساحة الطابق الواحد تبلغ (24) ألف متر مربع. 
يعدُّ جيو بونتي من رواد العمارة الحديثة من المعماريين الإيطاليين أمثال بيتر أشيري وجيوفاني موزيو ومارسيلو بياسينتيني الذي كان مسؤولاً عن التحولات الحضريَّة في العديد من المدن الإيطاليَّة. وقد أصدر جيو بونتي بالتعاون مع جيوفاني سيميريا، مجلة معماريَّة شهريَّة اسمها (دوموس Domus) عام 1928، وكان مقرها في ميلانو. بقي جيو بونتي يعمل محرراً للمقالات الهندسية والمعمارية والصناعية حتى عام 1941. لكنه عاد إليها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية حيث باشر مرة أخرى عام 1948، وتميزت في فترة الخمسينيات والستينيات بالحيويَّة الكبيرة في العمارة والفنون والرسم. 
 
وصف المبنى
تعدُّ البناية إنجازاً معمارياً حداثوياً ذا طابع إيطالي يرتفع في قلب بغداد ببهاء وجمالية ورشاقة. تألف من جسمين معماريين، أحدهما بارتفاع (١١) طابقاً والآخر يضم سبعة طوابق. المبنى الرئيس عبارة عن برج مضلع حيث ينساب الضلعان الطويلان بشكل مستقيم، بينما الضلعان الجانبيان الصغيران يتكون كل منهما من ضلعين صغيرين بزاوية منفرجة. مقطع جسم المبنى يشبه سفينة عالية تتجه للنزول في نهر دجلة. والبرج يشابه تصميم برج بيرللي في ميلانو من حيث الشكل العام والشبابيك. تم تغليف الواجهات بالسيراميك الأرجواني اللوني الذي حافظ على لونها وتركيبها من الأجواء العراقية منذ إنشائها وحتى الآن، علماً بأنَّ أغلب مواد البناء تم استيرادها من إيطاليا وسويسرا، ففضلاً عن البنايتين القريبتين من نهر دجلة وجسر الجمهورية (جسر الملكة عالية سابقاً) هناك خمس بنايات أخرى أصغر حجماً لكنها تعدُّ جزءاً من المبنى وفيها أقسام عائدة للوزارة.
يمكن دخول المبنى من خلال جسر صغير يبدأ من الشارع ويصعد حتى مدخل المبنى، ما يمنحها هيبة وتأثيراً للداخل إليها. ويوجد موقف للسيارات خاص بالموظفين والزائرين.
 
عقبات واجهت الإنشاء
بسبب أحداث تموز 1958 وسقوط النظام الملكي ونشوء النظام الجمهوري وما رافقه من تغييرات وتشكيلات وزاريَّة ومؤسساتيَّة، والانشغال بمحاكمات رموز العهد الملكي والتظاهرات والاجتماعات والنشاطات، تأخر العمل في تنفيذ البناية. كما أنَّ إلغاء مجلس الإعمار الذي كانت البناية مخصصة له قد تسبب في تأجيل العمل بها حتى عام 1961 تسلمت شركة المقاول العراقي المهندس عبد اللطيف العاني مهمة إنشاء البناية، ولكنَّ الشركة لم تتمكن من تسليم المبنى في الموعد المقرر، ما أدى إلى تكبد الشركة مبلغ مليون وربع المليون دينار عراقي (3 ملايين دولار).
توقف العمل في المبنى، وحدثت عدة انقلابات وجاءت عدة حكومات حتى حدث انقلاب 17 تموز 1968 وطلب المقاول من الحكومة مساعدته في إكمال البناء، لكنها رفضت وأصدرت قراراً بمصادرة أمواله المنقولة وغير المنقولة. وكان بإمكان المقاول إعلان إفلاسه رسمياً لتفادي مصادرة أمواله، لكنه رفض لأنَّ الإفلاس يضرُّ بسمعته. ومع ذلك تمكن من إنجاز العمل وتسليم البناية في العام 1996 لتصبح جاهزة لوزارة التخطيط.
في عهد الوزير علي الشكري (2010 - 2014) قام بنصب تمثال للمقاول عبد اللطيف العاني في مدخل الوزارة تكريماً لإصراره على إنجاز البناء رغم ما تعرض له من مصادرة أمواله والإضرار بسمعته. جاء ذلك بمناسبة مرور ٥٠ عاماً على إكمال المبنى. وكان الأجدر بالوزير نصب تمثال للمصمم الإيطالي جيو بونتي الذي قدم أروع تصميم معماري للبناية، وتخليداً لما قدمه للعاصمة بغداد. فالعادة لا تخلد الشركات المنفذة بل الذي قام بالتصميم خاصة إذا كان شخصية مشهورة.
في 12 آذار 2012 قامت محافظة بغداد بإنشاء استعلامات ألكترونية بكلفة 124 مليون دينار وبمدة إنجاز (50) يوماً. وقام بافتتاحها وزير التخطيط علي الشكري ومحافظ بغداد صلاح عبد الرزاق. وتضمنت قاعة مكيفة لجلوس المراجعين، ومكاتب لموظفي الأقسام الإدارية والمالية والقانونيَّة وغيرها في الوزارة. وعندما يدخل المراجع يتسلم بطاقة مكتوباً عليها رقمه وعدد المراجعين قبله والشباك الذي يراجعه. وكان موقع الاستعلامات يشرف على النهر، ثم ارتأت الوزارة نقلها إلى مدخل البناية مباشرة.
 
تعرض البناية للأضرار
أثناء عمليات حرب الخليج عام 1991 تعرضت الأبنية الملحقة بالوزارة إلى قصف صاروخي من قبل الطائرات الأميركيَّة، لكن المبنى الرئيس لم يصب إلا بأضرارٍ طفيفة. وكانت البناية ذات السبعة طوابق تستخدم من قبل الأمانة العامة لمجلس الوزراء. ففي آب عام 1994 قام حسين كامل صهر رئيس النظام السابق بإلغاء وزارة التخطيط، فتحولت إلى هيئة، وأصبح وزير التخطيط سامال مجيد فرج (في المنصب من عام 1982 - 1994) وزير دولة يعمل في المبنى الصغير. 
أثناء الحرب على العراق في 21 آذار 2003 تعرضت وزارة التخطيط لهجوم جوي بالصواريخ عندما شنت الطائرات الأميركيَّة على البنايتين الرئيستين. إذ تصدعت بعض الجسور والأعمدة والسقوف. أما البناية (E) فقد أصيبت بستة صواريخ حطمتها بنسبة 60 ٪ لأنها كانت تستخدم كمكتب حزبي.
وبعد سقوط النظام في 9 نيسان 2003 تعرضت الوزارة إلى نهب محتوياتها من قبل اللصوص، وقاموا بإحراق بعض طوابقها وأثاثها ومكاتبها.
يروي المعمار العراقي هشام المدفعي: “في العام 2004 بدأت الجهود لإعادة إعمار البناية بالتعاون مع مجموعة مازن كمونة (مكتب المعين) للأعمال المعمارية ومجموعة أمين زوين (مكتب دجلة) لأعمال الكهربائيات والتكييف والصحيات والخدمات الأخرى وأكملت الوثائق المطلوبة كاملة من خرائط وصور ومخططات ومواصفات ولكل التصاميم مع جدول الكميات موضوعة على أساس عمل مقاول عالمي بأسلوب تصميم وبناء Design Build}.
يذكر المدفعي: “لا أدري لماذا سألني وزير التخطيط آنذاك د. مهدي الحافظ وزير التخطيط عن تفاصيل شبابيك وزارة التخطيط وهل هي بالمواصفات ذاتها التي وضعها (جيو بونتي) أم لا؟ كون هذا الموضوع خارج اختصاصه وبينت له بأنَّ الشبابيك الموضوعة من قبلنا هي بالأشكال والأبعاد ذاتها، إلا أنَّ مواصفاتها أحسن لأننا نطلب الآن استعمال ألواح زجاج مزدوجة عازلة للصوت والحرارة، ومعدن الشباك هو من الالمنيوم عالي النوعية لعدم توفر هذه المواصفات عندما وضع المصمم الإيطالي المواصفات السابقة}.
ويضيف “عملت الحكومة الإيطاليَّة على تخليد أسماء عظمائها بشكلٍ واضح. ولما كان المعمار جيو بونتي وهو مصمم أبنية وزارة ومجلس التخطيط يعدُّ من كبار المعماريين الإيطاليين المشهورين الذين تعمل حكومته على تخليد أعماله، فقد تولدت فكرة أهمية التعرف على تفاصيل أعمال إعادة الحفاظ على التصاميم الأصلية لهذا المعماري الإيطالي المشهور . ومن هذا المنطلق وجهت إدارة اليونسكو في إيطاليا الدعوة إلينا لزيارة مدينة وجامعة ميلانو في حزيران 2004 لعرض تفاصيل أعمال ألـ (Renovation Of The Ministry Of Planning Building )، التقينا في جامعة ميلانو، وفي قاعة الاجتماعات بالجامعة بالعديد من المهندسين والمعماريين وطلاب دراسات الحفاظ على التراث، طالبين مني أنْ أشرح لهم مقدار الأضرار التي تعرضت لها أبنية وزارة ومجلس التخطيط وشرح فكرة الحفاظ التي عملنا عليها للحفاظ على تراث المعماري «جيو بونتي» في بناية وزارة التخطيط في بغداد.  وبعد شرحٍ كاملٍ لعدد الأبنية وأسلوب العمل الذي اعتمدناه ونوع العلاجات لكل بناية والأهم من ذلك إعطاء الأهمية القصوى الى الأبنية المصممة من قبل «جيو بونتي» ، توضحت سلامة العلاجات المعتمدة من قبلنا في بغداد. علاوة على ذلك فتحنا باب العمل المستقبلي بيننا وبين جامعة ميلانو في ما يحتاج العمل علية سوية بالمستقبل.