سبعة دروس في الحب

منصة 2021/06/17
...

 منير عتيبة
الحصة الأولى : لا تكتب خطابات
كنت في الصف الخامس الابتدائي عندما أخبرني زميلي أشرف بوجود معجزة في قريتنا، أسانسير في بيت الأستاذ فتح الباب، ألححت على أبي لأنضم لمجموعة التقوية التي لم أكن أحتاج إليها، فقط لأركب الأسانسير. عندما ذهبت مع أشرف اكتشفت أنه يكذب، أو بالأدق أنه استخدم المجاز الذي تعاملت أنا معه على أنه حقيقة، فالأولاد في مجموعة التقوية يطلقون لقب الأسانسير على السلم بين الدور الأرضي حيث الأستاذ محمود مدرس العلوم والرياضيات، والدور العلوي حيث الأستاذ فتح الباب مدرس اللغة العربية والدين، لكنني لم أتوقف عن الذهاب معهم، إذ رأيتها هناك، كانت ابنة الأستاذ فتح الباب، تصغرنا بعام لكنها معنا في السنة الدراسية نفسها، سمراء مثل لبنى عبد العزيز، وفي نحافة فاتن حمامة، ومسمسمة الملامح مثل الطفلة فيروز، حرصت على الجلوس بجانب هند، وكنت أصغي بنصف انتباه، وتركيزي كله في يدي التي تتحسس طرف فستانها ونحن جلوس على الأرض في حجرة الدرس. ومثل عبد الحليم حافظ في فيلم الوسادة الخالية؛ قطعت ورقة من كراسة الرسم، رسمت في أعلاها قلبين باللون الأسود بينهما سهم باللون الأحمر، كتبت على السهم باللون الأزرق كلمة الحب، وبداخل القلبين اسمينا معًا، هند وزكي، وكتبت لها خطابًا يؤكد أنني أحبها أكثر مما أحب كمال الشناوي فاتن حمامة في فيلم الأستاذة فاطمة، ومستعد للتضحية من أجلها أكثر مما ضحى إسماعيل ياسين من أجل زهرة العلا في فيلم إسماعيل ياسين في الأسطول، وأنني أتمنى أن نرقص معًا بين حقول قريتنا مثلما رقص محمود رضا وفريدة فهمي في فيلم أجازة نص السنة. كنت أحفظ كل الأفلام التي تعرض في التليفزيون الوحيد في قريتنا، تليفزيون ماركة فيليبس أربعة وعشرين بوصة أبيض وأسود في بيت عم إسماعيل أغنى أغنياء القرية.
ألقيت الخطاب في حجرها دون أن يلحظني أحد، وفي اليوم التالي استدعاني الأستاذ فتح الباب، وجعلني أنام على الأرض على ظهري، ورفعت رجلي إلى أعلى، أمسكهما أشرف بقوة، وضربني عليهما الأستاذ بالخيزرانة الرفيعة فصرخت وبكيت كما لم يحدث في حياتي من قبل. وعندما عدت إلى البيت مستندًا على اثنين من زملائي، كان عمي في انتظاري ومعه خيزرانة أخرى أكثر سمكًا كسرها على مؤخرتي. بعد عدة أيام تعافى جسدي، انقطعت عن مجموعة التقوية، عدت إلى المدرسة، كانت هند تقف خلف الشجرة التي تظلل جزءا من دورة المياه، ممسكة بيد أشرف يضحكان بسعادة غامرة لا أعرف سببها.
الحصة الثانية: لا تصف ملابسها
كان الأستاذ أحمد مدرس اللغة الإنكليزية الشاب أحب المدرسين إليَّ وأنا في الصف الثاني الإعدادي، شاب رياضي ممشوق القوام، أنيق الملابس التي يشتريها من باعة الأرصفة بمحطة الرمل (هذا مستوى عال جدًا مقارنة بنا مَنْ نشتري من بائع الملابس المستعملة بسوق الأحد في قريتنا)، يتعامل معنا بابتسامة وعطف، ولا يمسك بيده عصا كباقي المدرسين، لكنني عرفت معنى تقلب القلوب عندما بدأت أكرهه بعد أن انضمت أبله نهال إلى مدرستنا بشهرين.
كانت حصة الرسم أحب الحصص إلى قلبي، رغم أنني كنت فاشلًا في هذه المادة، لكن أبلة نهال كانت هي مدرسة الرسم، تقف أمامنا بعينيها العسليتين اللامعتين، ووجهها الجميل، وقامتها المتوسطة، وأناقتها الملفتة، بشعرها الأسود المقصوص (ألاجرسون)، وبلوزتها النص كم، والجيبة القصيرة، والجورب الأسود الخفيف الذي يغطي ساقيها، لكنها عندما تجلس نرى بياضًا شاهقًا لمسافة نصف شبر ما بين نهاية الجيبة وأعلى الجورب، كانت أول مدرسة تجعلنا نفكر فيها كأنثى وليس كمدرسة فقط، وتمنحني أعلى درجة في الفصل، إذ كنت أجعل زميلي غلاب يرسم بدلًا مني مقابل أن ينقل حل واجبات باقي المواد الدراسية مني.
كان طبيعيًا أن ينجذب الشابان إلى بعضهما، أستاذ أحمد وأبله نهال، ويعلنا خطبتهما، وأشعر بتحول قلبي إلى غيرة ثم كراهية لأستاذ أحمد، لكني لم أعرف ممن تعلمت أن أتلصص على أبلة نهال، هل من سعيد صالح في مسرحية العيال كبرت، أم من زميلي طارق الذي تعلمها من سعيد صالح في مسرحية العيال كبرت؟ كنت ألقي القلم على الأرض وأنزل تحت التخته لأبحث عنه، أستغرق دقائق ممسكًا القلم بيدي، وعيناي تتحسسان وتحفظان كل ما تريانه من أبله نهال الجالسة على كرسي أمام تختتي واضعة ساقًا على ساق أحيانًا، وممددة ساقيها أمامها أحيانًا أخرى، وهو الوضع الأنسب للمشاهدة بالنسبة لي. 
احتفظت لنفسي بما أرى، ثم امتلأت به، ثم حدثت عنه غلاب وطلبت منه أن يرسمه بناء على وصفي له، فصمم أن يرى بنفسه، رفضت بحمية وهددته إن فعل أن أخبر أبلة نهال وأن أتوقف عن أن أغششه في الامتحانات، فقبل على مضض، لكنه لم يرسم صورة لأحتفظ بها، بل رسم صورًا عديدة، وباعها للتلاميذ.
بعد أسبوعين انتقل كل من أستاذ أحمد وأبله نهال من مدرستنا إلى حيث لا ندري، وسمعنا أنهما فسخا الخطبة، وبقدر فرحتي أن أبلة نهال لم تعد مرتبطة بأحد، بقدر حزني لأنني لن أراها مرة أخرى بأي شكل من الأشكال.
 
الحصة الثالثة: الحب أهم من التكافؤ؟!
كانت سميرة محروس أجمل بنات المدرسة الثانوي التجاري، وكنت أسبقها بعام في مدرسة الصنائع، جمعتنا نظرات أعمق مما يتبادله أبناء قرية واحدة، وذهاب وعودة معًا محشورين في صندوق عربة نصف نقل من القرية إلى المركز حيث المدرستين، نجلس متلاصقين فيسخن جسدي ويؤلف خيالي فيلمًا فوريًا لا بد أن ترفض الرقابة عرضه، ولأن المواد الدراسية كانت سهلة للغاية فلم نكن بحاجة لحضور الكثير من الحصص في معظم الأيام، فكنا نلتقي في الحديقة شبه المهجورة خلف مجمع المدارس، نتحدث ونتلامس ونحلم بمستقبل يضمنا معًا ليحيا حبنا خالدًا إلى الأبد، لامعًا كالنجوم، متدفقًا كموج البحر (كنا نتبارى في اختلاق التعبيرات التي تجعلنا أكثر تفوقًا على العشاق في الأفلام الهندي).
عاد أبي من عمله مبكرًا، كان كالعادة مكفهرًا أسود الوجه، فهو يعمل حدادًا يقف طوال النهار أمام الكير، لكن اكفهرار وجهه اليوم كان غير طبيعي، ونظراته لي بها نيران كير كبير تكاد تحرق جسدي، لم يتحدث إلي، فقط خلع حزام بنطلونه، الحزام الجلدي ذا التوكة الحديد، وأخذ يضربني بالتوكة بدون اختيار مكان سقوطها، على وجهي، على بطني، على ظهري، ويده الأخرى لا تكف عن ضربي، وقدماه تساعدان أيضًا، ولسانه لا يتوقف عن سبي (بتحب يا صايع يا ابن الكلب؟ ماشي مع بنت صاحب الورشة؟ طردت بسببك يا بهيم، أصبحت صايع مثلك، فلتمت من الجوع أنت وإخوتك، يا حمار يا ابن الحمار).
 
الحصة الرابعة: احذر صديق الغرزة
كان يقف على الأرض راسخاً رسوخ الجبال، لكن البيت الذى يقف أمامه يهتز يميناً ويساراً حتى ليكاد يقع على البيوت المجاورة، والسماء تقترب وتبتعد، يصرخ بصوت عريض ثابت وإنْ وصلت ذبذباته إلى الآذان حادة رفيعة ثقيلة متقطعة:
• طلق فتيحة يا عبد الرحمن!
فى البداية، كان الجيران يفتحون الشبابيك بمجرد سماع صوته، يشاهدونه وهو يكاد يسقط على الأرض من فرط ما شرب الحشيش، بل أحياناً كان يسقط على الأرض فعلاً عندما تأخذه نوبة بكاء شديدة، يدفن رأسه في تراب الشارع حتى ينتهي من بكائه، ثم يتساند على الهواء ويذهب إلى بيته، لا يعرفون أنه عادة ما لا يذهب إلى البيت، قد تذهب به قدماه إلى سوق القرية، أو موقف التوكتوك، أو عشة الغرزة، أو أي مكان يدركه فيه سلطان النوم فيغلبه.
كانت فتحية أجمل أرملة ثلاثينية في القرية، تمتلك شقة إيجار قديم خمسين مترًا، وتوكتوك كان زوجها الراحل يرعاه أكثر مما يرعى فتحية نفسها، لذلك لم يمض على رحيله ثلاثة أشهر حتى تزوجت من عبد الرحمن الذي يصغرها بخمس سنوات، لكن زكي كان ناقمًا على عبد الرحمن، فزكي يحبها حبًا حقيقيًا، ليس طامعًا في الشقة ولا التوكتوك، ولعمق الحب ألجم لسانه فلم يستطع مصارحتها، فوسط عبد الرحمن بينهما، فأخذها عبد الرحمن لنفسه. انعزل زكي أيامًا في بيته مكتئبًا، تؤلمه طعنة الخيانة، ثم عاد إلى الحياة تدريجيًا، والحياة هي عشة الغرزة على المصرف القديم، خفف عنه الحشيش بعض الألم إذ غيبه عن التفكير في مصيبته بفقد حبيبته وضرب عبد الرحمن له على قفاه (!)، لكنَّ المواساة الحقيقة جاءت من الفكرة التي اقترحها عليه سالم وهما يحششان (افضحه وخذها منه).
كانت فتحية تمسك عبد الرحمن حتى لا يتعارك مع زكي، لكنه لم يتحمل أكثر من أسبوع، وضربها متهمًا إياها بأن ما يحدث يعجبها، ويرضي مزاجها الشهواني، وخرج إلى زكي، وظل يضربه حتى كسر ذراعيه، بينما تقف فتحية في البلكونه (ترقع بالصوت الحياني) وتطلب من عبد الرحمن أنْ يرحم الشاب المسطول، فسبها عبد الرحمن، وطلقها صوناً لكرامته.
(أجلس في الغرزة منعزلًا لا أتحدث إلى أحد، وقد حكيت ما سبق بضمير الغائب، فكرامتي تمنعني من الاعتراف مباشرة بأن سالم هو الآخر ضربني على قفاي وتزوج فتحية).
 
الحصتان الخامسة والسادسة: لا يوجد
ربما تغيب المدرس أو نطَّ التلاميذ من فوق السور أو ناموا أثناء الدرس.
 
الحصة السابعة
لا تصدق كاذباً مثلي يخبرك بهراء، فالحب تجربة لا بُدَّ أنْ تخوضها بنفسك لتستخلص منها ما يخصك من دروس لن تفيدك على أية حال.
 
درس خصوصي.. الزواج
ستتزوج من تحبها وتظل تحبها. ستتزوج من تحبها وتكره اليوم الذي أحببتها فيه. ستتزوج من لا تحبها وتنسى من تحبها. ستتزوج من لا تحبها ولا تنسى من تحبها. ستتزوج وخلاص. لن تتزوج أبداً... أمامك بدائل كثيرة وحرية اختيار محدودة. لكن لا تنس أنْ تدفع ثمن الدرس للسكرتيرة وأنت خارج.