قصة تهريب رواية «دكتور جيفاكو» المحظورة

منصة 2021/06/17
...

  لوك هاردينج
ترجمة: جمال جمعة
كشف كتاب جديد عن أنَّ جهاز الاستخبارات البريطاني (MI6) لعب دوراً حيوياً في تهريب نسخ من رواية بوريس باسترناك المحظورة “دكتور جيفاكو” إلى القراء السوفييت، حيث قام الجهاز بتمرير المخطوطة الروسية سراً إلى وكالة المخابرات المركزية الأميركيَّة.تشير وثائق وكالة المخابرات المركزية التي رفعت عنها السرية حديثًا إلى أنه في العام 1957 تمكن ضابط استخبارات بريطاني، لم يُذكر اسمه، من تصوير النص الأصلي لرواية باسترناك. كان باسترناك قد عهد بروايته إلى حفنة من جهات الاتصال الأجنبية في الصيف السابق بعد أنْ أضحى واضحاً بشكل متزايد أنَّ السلطات السوفيتية سترفض نشرها. وكان من بينهم ناشره الإيطالي جيانغياكومو فيلترينيلي. كما أعطى باسترناك المخطوطة إلى اثنين من الأساتذة الزائرين من أكسفورد، أشعيا برلين وجورج كاتكوف، اللذين قابلا باسترناك بشكل منفصل في منزله الريفي في ضاحية بيريديلكينو القريبة من موسكو.
من غير الواضح ما إذا كان شخص ما من داخل الحلقة المقربة من باسترناك قد أعطى المخطوطة إلى الاستخبارات البريطانية لنسخها أو إذا قامت الاستخبارات نفسها باختلاسها من دون موافقة المالك. برلين، وهو متحدث روسيّ أصليّ له اتصالات دبلوماسية بريطانية واسعة، كان أحد المصادر المحتملة، رغم أنه عارض النشر المبكر للرواية. كان كاتكوف مؤيداً. بعد عودته من موسكو، قدّم برلين أيضا نسخا لأخوات باسترناك اللواتي كن يعشن في أكسفورد. تشمل الاحتمالات الأخرى المترجمين، وكذلك فيلترينيلي، الذي أصدر أول نسخة أجنبية من “دكتور جيفاكو” في إيطاليا في نوفمبر من السنة إياها.
كشفت مذكرة لوكالة المخابرات المركزية، مؤرخة في 2 كانون الثاني 1958، أن الاستخبارات البريطانية سلّمت نسخة من المخطوطة الأصلية المرقونة في 433 صفحة إلى المخابرات الأميركيَّة. ذكر فيها: (نرفق هنا لفافتين مرسلتين من الفيلم الذي هو نيجاتيف النسخة المصورة من الدكتور جيفاكو لباسترناك. هذه اللفائف تم تسليمها إلينا بواسطة “xxx” الذين طلبوا إعادتها “في الوقت المناسب”).
تضيف المذكرة أنَّ البريطانيين ـ تم تعديل اسم العميل ـ “يؤيدون استغلال كتاب باسترناك وعرضوا تقديم أية مساعدة ممكنة. ومع ذلك، كانوا حذرين من إرسال نسخ بالبريد إلى الاتحاد السوفيتي لأنهم واثقون من أنَّ معظمها سيتم اعتراضها من قبل الرقابة. لقد اقترحوا إمكانية دسّ نسخ في أيدي المسافرين المتجهين إلى منطقة الستار الحديدي”.
دور وكالة المخابرات المركزية في توزيع الرواية داخل الاتحاد السوفيتي تم الكشف عنه في كتاب “قضية جيفاكو: الكرملين، وكالة المخابرات المركزية، والمعركة حول كتاب ممنوع”، الذي كتبه الصحفي في “الواشنطن بوست” بيتر فين والأكاديمية بيترا كوفي، ونشر في الولايات المتحدة، وسينشر في المملكة المتحدة وبعد ذلك في مناطق أوروبية أخرى.
بعد تسلم المخطوطة من الاستخبارات البريطانية، رتّبت الوكالة سرًا عملية نشر نسخة باللغة الروسية من “دكتور جيفاكو” لتطبع في هولندا. ساعدت المخابرات الهولندية في النشر. تم توزيع الطبعة في أيلول 1958 في معرض بروكسل العالمي، في نسخ مجلّدة تم تقديمها خفية للزوار السوفييت داخل جناح الفاتيكان. في العام 1959، طبعت وكالة المخابرات المركزية نسختها الخاصة الورقية “كتاب جيب” من الرواية في مقرها الرئيس بواشنطن. تم تسريب الطبعة على أنها عمل لمجموعة من المهاجرين الروس في أوروبا.
وكما كتب فين، فإنَّ علاقة باسترناك الشخصية مع الحزب الشيوعي وقادته كانت “متأرجحة بشدة”. لقد كتب قصائد في تمجيد ستالين ولينين، لكنه أصيب لاحقا بخيبة أمل من الدولة السوفيتية في أعقاب الإرهاب في أواخر الثلاثينيات. نجا باسترناك من حملات التطهير تلك، ويرجع ذلك إلى حدٍ كبيرٍ إلى ستالين شخصياً الذي كان يهتم بأدبه. لكنَّ العديد من جيران باسترناك في مستوطنة الكتّاب تم اعتقالهم وإطلاق النار عليهم.
أُكمل الكتاب بعد وفاة ستالين، لكنه رُفض من قبل السلطة السوفيتية الجديدة على أساس “عدم تقبله للثورة الاشتراكية”. إلاّ أنَّ “شعبة روسيا السوفيتيَّة السريَّة” التابعة لوكالة المخابرات المركزيَّة في الولايات المتحدة، التي يراقبها مدير وكالة المخابرات المركزية ألين دالاس والمصادق عليها من قبل مجلس تنسيق عمليات الرئيس دوايت د. أيزنهاور، أدركت أهميتها. لقد كانت السلاح الثقافي المثالي للحرب الباردة. تدور أحداث الرواية في العقود التي تلت الثورة الروسيَّة، فقدَ بطلُها الطبيب الشاعر يوري جيفاكو حماسه للبلشفيَّة وتوقف عن النضال الثوري. لجأ مع عشيقته، لارا، إلى منزل ريفي، وعاد في النهاية إلى موسكو، حيث توفي عام 1929.
في مذكرة سرّية، كتب جون موري، رئيس قسم وكالة المخابرات المركزية، أنَّ “رسالة باسترناك الإنسانية ـ والتي مفادها أنَّ لكل شخص الحق في حياةٍ خاصة ويستحق الاحترام كإنسان، بغض النظر عن مدى الولاء السياسي أو المساهمة في الدولة ـ تشكل تحديًا جوهريا للأخلاق السوفيتية المتمثلة في التضحية بالفرد من أجل النظام الشيوعي”.
ويتابع موري: “لا توجد دعوة للثورة على النظام في الرواية، لكن البِدعة التي يبشر بها الدكتور جيفاكو ـ السلبية السياسية ـ هي أساسية”.
مذكرة أخرى تصف الكتاب بأنه “أهم من أي عمل أدبي آخر خرج من الكتلة السوفيتية حتى الآن”. تشير ملفات وكالة المخابرات المركزية إلى أن (دكتور جيفاكو) لها “قيمة دعائية عظيمة، ليس فقط بسبب رسالتها الباطنية وطبيعتها المحفّزة على التفكير، ولكن أيضًا بسبب ظروف نشرها”. إن حقيقة كون “أعظم كاتب حيّ” في روسيا لم يتمكن من النشر في بلاده ستدفع بالمواطنين السوفييت إلى “التساؤل ما هو الخطأ في حكومتهم؟”، كما تشير الملفات.
يشير فين، مدير مكتب “واشنطن بوست” السابق في موسكو، إلى أنه “في عصر الإرهاب، والطائرات المسيّرة، والقتل المستهدِف، تبدو ثقة وكالة المخابرات المركزية ـ وثقة الاتحاد السوفيتي ـ بقدرة الأدب على تغيير المجتمع أمرًا غريبًا تقريبًا”. إلى جانب جهود وكالة المخابرات المركزية، فإن فيلم “دكتور جيفاكو” عام 1965، من بطولة عمر الشريف في دور جيفاكو وجولي كريستي في دور لارا، قدّم القصة إلى “أعداد هائلة من الناس”، كما يكتب الصحافي.
طلب فين من وكالة المخابرات المركزية لأول مرة في عام 2009 الإفراج عن الملفات المتعلقة بقضية جيفاكو. رفضت الوكالة، إلاّ أنها رضخت فيما بعد. أسماء ضباط وكالة المخابرات المركزية، الذين هم موتى الآن، تم تعديلها. لكن فين وكوفي تمكنا من تحديد معظم الفاعلين الرئيسيين عن طريق الوثائق العلنية، والمقابلات مع أقاربهم الأحياء، إضافة إلى مصادر أخرى. “الوكالة بشكل عام كانت مترددة في الإفراج عن الكثير من المواد المتعلقة بالحرب الباردة الثقافية أو برنامج الكِتاب الخاص بها. لكن في هذه الحالة، أخمّن أنهم لم يروا شيئًا يضر وكالة المخابرات المركزية”، كما صرّح فين لصحيفة الغارديان.
توجّه الكاتبان إلى جهاز الاستخبارات البريطاني MI6 لمعرفة فيما إذا كانت الوكالة مستعدة بعد ستة عقود للكشف عن كيفية حصولها على نسختها المحظورة من “دكتور جيفاكو”. فردّت وكالة MI6 بالقول إنها قررت عدم إعادة فتح أرشيفها بعد نشر سجلها الرسمي عام 2010. يعترف فين أنه من دون قرائن إضافية فمن غير المرجح حل اللغز. “نحن نعلم بالطبع أن الناشر كانت لديه نسخة كما يفعل برلين، كاتكوف، عائلة باسترناك، المترجمون، وآخرون غيرهم. لكن من كان بالضبط [المصدر الأصلي الذي أعطى المخطوطة إلى الاستخبارات البريطانية]؟ فلا أحد يعلم بالضبط”.
 
The Guardian