زمن الصورة والاستعراض

منصة 2021/06/20
...

 ميادة سفر
 
​صور.. صور.. أينما تلتفت تطالعك الصور. صورة فنان هنا، مرشح انتخابي هناك، إعلان عن حفلات في تلك الزاوية، منتج غذائي، منظفات. شاشات عملاقة تعرض على مدار الساعة إعلانات مختلفة، بألوان جذابة وإضاءة ملفتة، لا تدعك تمر من دون أنْ تلقي نظرة ولو عابرة على العرض المجاني المقدم لك عزيزي المشاهد، لا داعي للقراءة، الصورة تغنيك عن تركيب الجمل واقتفاء أثر اللغة.
​في عالم اليوم تُنفَق أموالٌ طائلة في صناعة الصورة، من الإعلان إلى المسلسلات التلفزيونيَّة، وصولاً إلى أجهزة الكمبيوتر والموبايل الذي أصبح المرافق الدائم لنا في تحركاتنا وحلنا وترحالنا، وتحولت وسائل التواصل الاجتماعي إلى منصات إعلانية للفنانين والفانشيستات وحتى الكتاب، إذ لم يعد ممكناً، وربما لم يعد مسموحاً، أنْ تهمل نشر إحدى مقالاتك أو إصدار كتاب لك. عبر فيسبوك أو تويتر وانستغرام.. إنها منبرك وطريقك الأقصر لتصل إلى القراء والشهرة ربما، لا بأس في ذلك، طالما الغاية إيصال معلومة مهمة أو ربما تهم شريحة ما، هذا إذا جزمنا أنّ جمهور القراء لم يزل موجوداً وشغوفاً بالكلمة، لأنَّ عالم الصورة والميديا يحلّ تدريجاً محل الكلمة، ففي الوقت الذي كنا نستغرق دقائق في قراءة معلومة ما، أو مواصفات منتج ما، أو التعريف بشخصٍ معين، فإنّ الصورة اليوم تختصر الوقت وتقدم لنا ما نريد بأجزاء من الثانية، وحتى أنّ أكثر الدول قراءة في العالم بدأت بالتراجع أمام الطغيان البصري.
​أعرق المجلات والجرائد تتحول تدريجاً إلى مواقع إلكترونية تتكئ على الصورة للصمود والبقاء، مختصرة كثيراً من الصفحات، لأنَّ القارئ أصبح ملولاً يبحث عن المختصر المفيد، أما الإذاعة التي لطالما شدنّا صوت مذيعيها وأصغينا بشغف ملصقين آذاننا على أجهزة الراديو، فتحولت هي الأخرى إلى المسموع المرئي عبر بث مباشر لما يجري داخل غرفة البث، لنرى ونسمع المذيع بعد أنْ كنا نتحرق شوقاً وفضولاً لتشكيل صورة مذيعنا المفضل، كثيراً ما رسمتُ صورة متخيلة للراحل فايز مقدسي وهيام حموي، وغيرهما من أسماء إذاعية تربينا على أصواتها. أما اليوم فلم يعد للمخيلة أيّ دور.. ها هم أمامك على شاشة الموبايل، ستنشغل عن حديثهم بتتبع حركاتهم، وربما ملابسهم، ومكياجهم، وأحياناً السخريَّة من ارتباكهم أمام المايك.
​ما يحصل اليوم ما هو إلا إعادة تشكيل المجتمع والعلاقات الاجتماعيَّة التي أصبح الأساس الذي ترتكز عليه هو الصورة والمشهد البصري، ما إنْ تلتقي بأحدهم أو تزور مكاناً ما حتى تبادر إلى التقاط عشرات الصور وبثها عبر منصات التواصل الاجتماعي، وهو مؤشر على سيطرة وسطوة المال والاقتصاد على الحياة الاجتماعيَّة للبشر، وتغوّل أصحاب رؤوس الأموال والشركات، وتعمق سيطرتهم على الأفراد.
​طغيان الصورة والبحث عن الاستعراض المفرغ من أي مضمون جدي ومفيد، سيزيد من عزلة الكائن البشري واستلابه، تنعزل في بيتك أمام شاشة الموبايل، في الطريق، وأنت تتلفت يميناً ويساراً كي تلتقط هذا الكم من الصور غير آبه بمن يسير بجانبك ولا بمن حولك، رأسك مطأطأ على موبايلك وذهنك سارح في مكان ما.
​إنه عالم الصورة ومجتمع الاستعراض الذي لا مفرّ منه، وكل ما ذكر أعلاه ليس دعوة للنأي عنه والابتعاد عن مكوناته.. إنما هي إضاءة لعلها تنقذنا من الغوص والغرق أكثر فيه، وتحقيق شيء من التوازن ما بين الواقعي والافتراضي، الحقيقة والحلم، الفارغ والممتلئ، لأنَّ الصورة لا تعكس الحقيقة دائماً.. فهل نحن فاعلون؟.