فكر دونا هاراوَي Donna Haraway يمتد في مجالات متعددة مثل أغلب الفلاسفة والمنظرين النقديين المعاصرين في عالمنا الحالي، وكتاباتها ونتاجها الفكري ما يزال مستمرا من عقود والى زمننا الحاضر. لكن ابرز مجالات فكرها يرتبط بما بعد الانسانوية ومفهوم السايبورغ فضلاً عن العلم والنظرية النسوية.
في توصيف ذاتي طريف لنفسها تقول: لأني تدربت ودرست في مجال البايولوجيا الجزيئية والتطورية، فأني أُحدَّد كمؤرخة للعلم. ولأني قدمت على فيزا لأجل بقاء طويل الأمد في المناطق المتداخلة للأنثروبولوجيا، فاني كائن فضائي مقيم في هجين من المباحث المتقاطعة. لكن وطني الحقيقي هو المادة الفَظة، والمناطق الخيالية للتكنو-علم technoscience.
مفهوم "السايبورغ" cyborg مفهوم رئيسي في فكر هاراوَي، والسايبورغ عبارة عن كائن هجين او تركيب من المواد العضوية والاجهزة الالكترونية والميكانيك. ولعل كثير من القراء العرب شاهد افلاما سينمائية من افلام الخيال العلمي عن كائنات من هذا النوع، لكن للموضوع ابعاده المعرفية النظرية ذات الصلة بالواقع ايضا، بالاقتران مع تطورات البحوث في حقول البايولوجيا والوراثة والتكنولوجيا والسيبرنيطيقا (لعل من مفارقات الترجمة الى العربية وجود ترجمة على الشبكة العنكبوتية مجهولة المصدر ترجمت "السايبورغ" الى "سعالي"، اي جمع "سعلاة"، الكائن الخرافي المعروف!).
ولهذا المفهوم او الكائن ظلاله التي يلقيها على العالم الحالي ومستقبله، سواء على مفهوم "الانسان" وطبيعته وحدوده وافاقه، او مواضيع التطور العلمي التقني (التكنو-علم) واتجاهاته التي يسير فيها وما يمكن ان يفضي اليه، بالاضافة الى مواضيع الجندر والنسوية. وفي رؤية هاراوَي ان الحركة الجارية باتجاه "السايبورغ" كفيلة ايضا بتخطي الاشكاليات المزمنة في التاريخ البشري مثل التمييز على اساس الجندر او العرق او العنصر وما شابه.
مع هاراوَي وضدها
بالطبع اطروحة من هذا النوع لا بد ن تتلقى نقدا قويا من اكثر من اتجاه، فضلا عن وسمها باللاواقعية، او ضعف الواقعية على الاقل. فالنقد من الاتجاهات النسوية لافكار هاراوَي يركز على لا واقعيتها وانها لا يمكن ان تتحول الى ادوات في منهج سياسي محدد في الخطاب والممارسة الفمنستية. فضلا عن النقد المقترن بنقد التطور العملي والتكنولوجي الحالي وما يفضي اليه في ظل الراسمالية والعولمة من ابتعاد عن الاحتياجات والاوضاع الفعلية لاكثرية البشر، ومخاطر البيئة والحروب، والاغتراب والقلق، وهو نقد واسع النطاق بين عدد من ابرز مفكري العالم المعاصر ومنظريه.
لكن تتوجب الاشارة – وكما تدافع هاراوَي عن آرائها – انها اولاً ليست مع التكنو-علم الجاري بتوجهاته الحالية بما لها وما عليها. وانها لا تدعو لاكثر من الاستفادة من الامكانات التي يوفرها هذا التقدم لتخطي اشكاليات مزمنة في حاضر وماضي التاريخ البشري. ذلك ان السايبورغ كيان او مفهوم لا يندرج بطبيعته ضمن تقسميات العرق والعنصر والجندر التي وسمت ماضي البشر وحاضرهم. وهي تؤكد ان هناك حركة فعلية تجري في هذا الاتجاه، مثل استخدام بعض الاجهزة الالكترونية في عمليات القلب واجزاء بشرية اخرى، او في الاستخدام الواسع النطاق للاطراف الصناعية، وانها - أي هاراوَي - وكما هو عنوان احد كتبها، "شاهد متواضع" على ما يجري.
ولكنها تنتقد الكثير من ممارسات العلم الجاري بما فيها تكثير كائنات مثل فئران التجارب وما يثيره من اسئلة اخلاقية عن بتعامل الانسان مع بيئته والكائنات الاخرى فيها. ويمكن الملاحظة، على اساس تصورات كهذه، ان هاراوَي تندرج في الاتجاه ما بعد الانسانوي posthumanism. فما بعد الانسانوية اتجاه نقدي يناهض مفهوم "الانسان" والنزعة الانسانوية التي اقترنت به، بمعنى مناهضة التصورات عن مركزية الانسان واولويته التي تتيح له تسخير كل شئ لصالحه فقط بعيدا عن التاثيرات الناجمة عن ذلك وعن حق الكائنات الاخرى في الحياة، وايضا ارتباط مفهوم "الانسانوية" بالانسان الغربي بوجه خاص باعتباره هو "الانسان" الذي تمت باسمه عمليات الهيمنة الكبرى في التاريخ الاستعماري وما بعد الاستعماري وعالمنا الحالي، فضلا عن التهديدات الخطيرة للبيئة وكوكب الارض نفسه التي وصلت حدا تلوح فيه كوارث على المستوى الكوني.
العلم والخيال العلمي
لعل من المفيد الاشارة هنا الى ضرورة التمييز بين العلم والنظرية من جهة، وتجليات الخيال العلمي من جهة أخرى. فالافلام الهوليوودية التي يعرفها مشاهدونا دأبت على تقديم مواضيع من هذا النوع، عادة ممزوجة بالكثير من العنف لاغراض الاثارة وجذب المشاهدين (أفلام الأكشن، حرب النجوم، بشر أليين...الخ). ولكن المقاربة العلمية والنظرية الرصينة لموضوع التطور العلمي والتكنولوجي، وما يترتب او يمكن ان يترتب عليه بما في ذلك موضوع "السايبورغ"، بعيدة كثيرا عن هذه الاثارات السطحية. فنظرة الى التطور المستمر الواقعي للعلم والتكنولوجيا، تشير الى انهما يتحركان بثبات واستمرارية (وهنا سؤال اخر مهم عن الاتجاه الذي يتحركان فيه ودرجة اخلاقيته ودوره في تحسين اوضاع البشر ام القلة فقط). وان ما قد نتصوره خيالا اليوم، قد لا يكون كذلك بعد قرن من الزمان مثلا، كما حدث كثيرا في التاريخ.